تحت المجهر – أيها العام الراحل.. أيها العام القادم

يا أيها العام الهجري الراحل ماذا حملت معك من ديار المسلمين؟ 

ماذا حملت معك من هذه الديار وأهلها، من مسلمين وغير مسلمين، وأنت من ارتبطت باسمك الهجرةُ وما كان في أيامها الأولى من عهد وميثاق لم يُعرف مثيله في التاريخ من قبل، ولا بلغ ميثاقٌ من بعده ما بلغه من ترسيخ لعلاقات الحق والعدالة بين أهل البلد الواحد، في مجتمع مشترك، في ظل شريعةِ من حرّم على نفسه الظلم وجعله بين الناس محرّما، وأَمَرَهم كما ورد في الحديث القدسي: فلا تظالموا!

ماذا حملت أيها العام الراحل من هذه الديار؟ 

هل تذكر عندما حللتَ قبل اثني عشر شهرا تلك الأيام عندما بلغت القلوب الحناجر وهي تشكو من إجرام العدو الغريب وتشكو من تواطؤ الأخ القريب، وتدعو بنصرة المقاوم الصامد مع أهله، وهو يدفع بدمائه العدوان والطغيان عن القلب من أرض أمته وتاريخها ومحور وجودها بين الأمم؟

وها أنت أيها العام الراحل تخلّف لنا مع أيامك الأخيرة صورة قوم يبسطون أيديهم لقاتلي أطفالهم ويقبضونها عن أهلهم وأطفالهم.. وتخلّف لنا مع أيامك الأخيرة دولا ليست دولا، وأعلاما تخجل من نظرات من يتطلع إليها، وحدودا ونزاعات كالخناجر تمزّق أعضاء الجسد الواحد وتمعن في طعنها شلواً شلوا..

هل تذكر كيف انشغل من انشغل عن استقبالك باستقبال كلمات خادعة عن سلام وأمان أمريكيين لديار المسلمين، ووعدٍ بعد وعد بوقف العدوان على ديار المسلمين، فتشاغل من تشاغل بتفاؤله وابتساماته، وبترحيبه وكلماته، وبتعلّق قلبه ويديه بفم عدوه وعدو أمته.. وها أنت أيها العام الراحل تخلّف لنا قوما يتباكون على خداع أنفسهم بأنفسهم، على تفاؤلهم وبسماتهم وترحيبهم وكلماتهم، وعيونُهم شاخصة إلى الحروب المستمرة في ديار المسلمين، وتخلّف لنا كثيرا.. كثيرا من المسلمين الغافلين الحالمين، والتائهين العابثين، والعاجزين والمتخاذلين.. إلا في فتنٍ كروية وحروب إعلامية وتحصينِ قضبانِ معتقلاتٍ تستقبل الأحرار، وتشييدِ صروحٍ تُبنى فوق الرمال وعلى سطح الماء.. لتتهاوى مع ثروات المسلمين على أجساد نحيلة وعظام ناتئة وأكواخ مهترئة في بعض ديار المسلمين.. وتمضي الأيام والشهور والأعوام ويستمر ضخّ ما يُضخ من ثروات المسلمين ودمائهم ليعمل في تشييد صروح أخرى، صروحِ رفاهيةٍ أمريكية وغربية!

هل تذكر كيف اختلطت حمرة الشفق في آفاق أيامك الأولى بحمرة دماء أهلنا وهم يصطرعون على ما خلفته سنون إجرام العدو الصفيق وغدر الأخ والصديق.. من مِزَقِ الضحايا في الجبال والوديان وعلى الوهاد والشطآن، حتى غدت جنّات بلادنا قاحلة جرداء، وغصت المقابر بالشهداء الأبرياء، وامتلأت مياه سواحلنا بقراصنة العصر الحديث تحت كل راية من الرايات!

هل تذكر ما حملته شهورك الماضية من فتن تجعل الحليم حيران.. في كل أرض تُهجر فيها سُنّة من تنتسب إلى هجرته، وتُحاصَر في شعابها رسالته، ويتنكر له فيها بعض مَن لولاه ما كان لهم في التاريخ اسم ومجد، ولا علم وحضارة، ولا فتوحات ورسالة، ولا شورى وعدالة.. ولا كان لهم في هذه الأيام وجود، إذا كان ما هم عليه يستحق وصف وجود!

وها أنت أيها العام الراحل ترحل.. وأنت تسأل: حتى متى أيها المسلمون؟

لقد شهدت الكثير من الأحداث خلال اثني عشر شهرا.. فحق أن تتساءل وأنت ترحل وبين أيدينا يوم الهجرة النبوية من جديد:

حتى متى يُعتقل أحراركم ويعذبون دون ذنب، سنوات وسنوات، حتى إذا أفرج عن بعضهم، بعد التنكيل والتعذيب، دون اتهام ولا قضاء، هاجروا في بقاع الأرض وبعض بلادكم يأبى استقبال بعضهم، فهي بلاد مستثناة من السؤال عن إيواء المعتقلين ظلما، المفرج عنهم "تكرّما".. مستثناة بتهمة عدم ائتمانها إلى الحقوق والحريات، لأنها تمارس التنكيل والتعذيب وتنتهك القانون وتمتهن القضاء!

حق أن تتساءل وأنت ترحل:

حتى متى تمنع فتياتكم من نقاب وحجاب.. باسم الحرية، ويصل إجرام التعصب إلى أن تصبح إحدى بناتكم شهيدة الحجاب في بلد من بلدان الحرية، وتتواصل الإساءات إلى دينكم ورسولكم وكتابكم.. باسم الحرية، ويموت أفواج بعد أفواج تحت أمواج البحر من بعض أهليكم المحرومين المهاجرين طلبا للقمة الطعام.. وتوهما بالحصول على الأمان والحرية، وأنتم في دياركم قابعون تحت أسواط من يغتال الحرية في كل يوم، وداخل كل قاعة محكمة، وفي كل صندوق انتخابات، وفي جيوب كل منافق لوريث بعد وريث لحكم الظلم والفساد والاستعباد والاستبداد!

حق أن تتساءل وأنت ترحل:

حتى متى تستمر الحرب في بلادكم وأنتم تحذرون من ذكر نكباتها على ألسنتكم، وتحذرون من مدّ أيديكم إلى ضحاياكم، فيُقتل من يقتل من أبناء شعوبكم وأنتم تحذرون مجرّد تأبينهم، ويجري تنفيذ مهازل الانتخابات المزورة في أكثر من بلد من بلدانكم بعلمكم وتحت أبصاركم، وأنتم تحذرون من مفارقة قافلة الانتظار على درب اغتيال أحدكم، وإعدام آخر، وملاحقة ثالث، وتنصيب رابع، والتخلي عن خامس.. فمن سيكون السادس في عامكم القادم.. وما الذي سيكون من نصيبه جائزةً له على ولاء التبعية أو التقصير في ترسيخ الهيمنة! 

حق أن تتساءل كثيرا أيها العام الراحل، والأسئلة لا تنتهي، وحق لنا أن نتساءل معك وقد رحلت، وأن نتمنى على أنفسنا ببعض ما بقي من أمل في أنفسنا فنسأل:

يا أيها العام القادم ماذا تحمل في جعبتك لديار المسلمين؟

هل يعود فيك لأهل هذه البلاد من مسلمين وغير مسلمين ما كان يجمعهم ويرقى بهم ويحقق لهم العزة والمنعة والوحدة، أم ستبقى الديار ديارا باكستانية ومغربية، وبنجالية وليبية، وسورية وأردنية، ومصرية وفلسطينية، وسودانية وباكستانية، والكل في مؤخرة البشرية، وعلى هامش الهامش من التاريخ والحضارة، وكل في واد، وفي كل وادٍ مزيد من الترويع والتشتيت والتقسيم والنزاعات، وفي كل أرض مزيد من الذل والفساد ومن التجبر والتخلف!

هل تكون عام اليائسين القانطين القابعين بانتظار الفرج أن يتنزل هكذا من السماء، ولا يتنزل الفرج على غير طالبيه.. أم ستكون عاما ترسمه ملامحه بسمة الرضى على ثغر مقاوم شهيد، وبسمة الأمل على ثغر طفل وليد، وبسمة الإيثار على وجه محسن كريم، يأبى حياة الرغد دون أن يشاطر به الأسير والسجين والمحروم والشريد..

ما الذي تحمله في جعبتك أيها العام القادم على ديار المسلمين، وفي كل زاوية من زواياها واجب ينتظر من يؤديه حق الأداء، ومهمة تنتظر من يحملها بحقها، وطاقات متفجرة في شباب وشابات من جيل عايش العام الراحل وعانى ما عانى فيه، ويعلم أنه المسؤول عن صناعة العزة والكرامة من جديد.. في أعوام قادمة.

معاذ الله أن نيأس أنّ بعد الاستبداد تحرّرا، وبعد التخلّف نهوضا، وبعد المهانة عزّة، وبعد الفرقة وحدة، وبعد الهزيمة نصرا.. واللهُ تعالى يشهدنا أن بعد كل ليل دامس نهارا مشرقا، وبعد كل سنة قحط وجفاف أعوامَ خير وعطاء.

معاذ الله أن نقنط من ثمرة جهد يُبذل، وحصيلة عطاء يُمنح، والله تعالى يشهدنا على كل نبتة تُزرع.. أن زارعها يحصد ثمرتها ولو بعد حين.

يا أيها العام القادم.. 

لقد عرف تاريخ هذه الديار أعوامَ أحد وحنين، وأعوام الغزوات المغولية والصليبية، وأعوام سقوط ديار المسلمين من أطرافها حتى وصل المستعمرون إلى القلب منها.. كما عرف تاريخ هذه الديار أعوامَ بدر وفتح مكة، وأعوام حطين وعين جالوت، وأعوام ثورات تحرير قريبة، انطلقت من أعماق الظلمة السوداء في حقبة الاستعمار الحديث والاستبداد الفاسد.

إنما نعلم أيضا أيها العام القادم.. أن للهزائم أسبابها وللانتصارات أسبابها، أن للرقي طريقا وللتخلف طريقا، أن للكرامة والوحدة والعزة والمنعة ثمنا، لا يدفعه لينال ما يريد إلا من يرتفع بنفسه ممّن يستقبلونك ويتبادلون "التهاني" بقدومك، إلى مستوى ما يتطلعون إليه من كرامة ووحدة وعزة ومنعة، إلى مستوى ما تعنيه كلمة "الهجرة" التي تحمل اسمها منذ بضعة عشر قرنا، لتُشهد الخلق، عاما بعد عام، أن ما يبدو كالمعجزات في الحياة الدنيا يتحقق على أيدي من يؤمن بالله ربا، وبمحمد نبيا، وبالكتاب نهجا هاديا، ويتحول إلى شعلة تهدي وطاقة تعطي وعزيمة لا تفتر وجهد لا ينقطع.. لتجتمع القلوب والعقول والسواعد على العلم والمعرفة، والوعي والأمل، والتخطيط والعمل، والبذل والتضحية.. فإن أصبح ذلك واقعا نصنعه بين أيدينا، فستكون بنا ومعنا عاما جديدا، تمحو ما صنعناه في عام راحل، وتشيد الأساس لما ينبغي أن نبنيه ونصنعه في أعوام قادمة.

{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} -العنكبوت: ٦٩-

نبيل شبيب