تجدد ذاكرة فلسطين التاريخية

التاريخ بداية والحاضر محطة والمستقبل هدف وعمل

رؤية تحليلية

تشهد الهبة الجماهيرية في مواكبة طوفان الأقصى على استحالة محو ذاكرة الأمة حول قضية فلسطين رغم الجهود التي تستهدف هذا المحور المركزي من الذاكرة التاريخية؛ وصحيح أن الآمال المعقودة على ذلك أكبر مما عبر عنه التحرك الشعبي لنصرة غزة مجددا، ولكن لا ريب في أن تداعيات طوفان الأقصى تمثل منعطفا هاما على هذا الطريق، وما زالت جعبة الأيام القادمة مليئة بالمزيد؛ وهذا بعض ما يشير إليه المقال التالي المنشور ورقيا يوم ١٠ / ١١ / ١٩٩٩م في جريدة الشرق القطرية.

*   *   *

الذاكرة التاريخية تصنع وعيا جماعيا حيا يولد بصيرة نافذة وعملا مشهودا على أرض الواقع، وهي ذات قيمة كبرى في حياة الأمم ومسيرة التطور البشري، ولا يعوض شيء عنها إذا انطفأت وبقي موضعها شاغرا في نسيج شخصية الأمة من المعتقدات والقيم والأفكار والأذواق والأخلاق وكذلك من التفاعل مع الأحداث.

ولئن كان مفعول الذاكرة التاريخية بدهيا ومطلوبا في حياة أي أمة في مراحل تاريخها الاعتيادية، فهو من الضرورات التي لا غنى عنها في مراحل الضعف، إذ تصبح مصدرا رئيسيا وحاسما لتجديد أسباب القوة وعناصر الوجود الحضاري، كما أنها من مكامن المناعة الذاتية ألّا يتحول الضعف، وهو حالة طارئة، إلى سقوط حضاري وتسليم مطلق، مما تنبني عليه عواقب خطيرة، قريبة وبعيدة المدى.

صحيح أن محو الذاكرة التاريخية لأمة من الأمم مستحيل التحقيق، ولكن مجرد تحقيقه جزئيا أو لفترة من الزمن، يسبب الخطر على وجود الأمة ومستقبلها، وهذا ما لا ينبغي القبول بتمريره، لا سيما على صعيد قضية محورية كقضية فلسطين.

ولا يغيب عن الأذهان في ظل أوضاعنا الراهنة مدى أهمية المراجعة المتجددة لما نصنع أو نهمل صنعه، لضمان مفعول ذاكرتنا التاريخية، في الحاضر والمستقبل، والحذر مما يُصنع لهدمها، لا سيما عن طريق فريق انسلخ بنفسه عن ارتباطاته التاريخية وسواها، وسقط أو كاد يسقط خارج نطاق الدائرة الحضارية المشتركة.

وهذا ما يعتمد على نشر الإحباط كنشر تصورات تقول إن من يعملون لمحو ذاكرتنا التاريخية، من داخل الصفوف ومن خارج الحدود، يملكون ما يكفي من القدرات والطاقات لصنع ما يشاؤون؛ كلا.. هذا وهم مخادع، رغم قعقعة وسائل إعلامية ضخمة به، ورصد مواقف وتحركات تخدمه، إذ سرعان ما يتلاشى مفعوله عند تنشيط القدرات الذاتية أو بعضها فحسب، في مواجهة تلك التصورات ومن يستظل بهيمنتها.

كل ما يمكن أن تحققه حملات تستهدف ذاكرة الأمة، إما أن ينسجم مع المعطيات الحضارية المشتركة المتوافرة أساسا فتهضمه وتوظفه تدريجيا بما لا يسيء إليها، أو أن  يتناقض معها فتلفظه ولو سيطر ظاهريا لفترة من الزمن على قشرة اجتماعية وثقافية تعيش في أبراج عاجية لا علاقة لها بقلب الأمة وفكرها وقيمها.

المعطيات الحضارية التاريخية الراسخة صنعت ذاكرة الأمة، وتدعم وعيها التاريخي، ولا يمكن إلا أن توظفه آجلا أو عاجلا في متابعة مسيرتها الحضارية المستقبلية، على أرضية ثوابت راسخة عقديا وفكريا وعطاءات مبدعة وهذا ما يساهم في تجديدها في واقع الأمة، وإن تعرّض التعبير عنها للكبت كليا أو جزئيا ردحا من الزمن، بتأثير عوامل داخلية وخارجية.

إنّ حفاظ أمتنا على ذاكرتها التاريخية مضـمون حتى ولو كان العاملون لهذا الهدف قلة محدودة العدد والقدرات، وما هم كذلك قطعا، على نقيض ما يزعم من ينشرون اليأس والتخذيل مع التهويل من طاقة الطرف الآخر، وما يدعمه من تصورات لا تصمد أمام رسوخ ذاكرتنا التاريخية على ثوابت أصيلة، لا تتبدّل بسبب تجاوزها أو إهمالها أو التهجم عليها، فقد صنعها الانتماء الحضاري المشترك المتميز على مدى قرون وقرون، وتقبلتها الأجيال وتوارثتها في وعيها الذاتي جيلا بعد جيل.

إن الثوابت الصادرة عن الذاكرة التاريخية هي التي تنسجم مع معطيات متوافقة بمضامينها عبر التاريخ، وكذلك مع معطيات متوافقة مع جوهر ما رسخ مضمونا وشكلا من ثوابت إنسانية مستحدثة الصياغة، على مستوى الأسرة البشرية، وإن واجهت ضغوط هيمنة تتناقض مع موازين العدالة والحق والقيم. وهي ثوابت إنسانية مشتركة لا تخضع لتبدل نصوص وقرارات صادرة عن أجهزة دولية ما، كمجلس الأمن الدولي، ما دام خاضعا لاحتكار قوة طاغية، وهذا جوهر مضمون تلك الثوابت الإنسانية المشتركة، ولهذا نجدها تعبر عن نفسها بتحرك جماهيري يتجاوب مع قضايا الحق والعدالة؛ وهو ما عايشنا مثالا آخر عليه في نوعية التفاعل الجماهيري الأممي مع تداعيات طوفان الأقصى.

هي ثوابت تاريخية النشأة، إنسانية الصبغة، حضارية المفعول، وهي تلك الثوابت المذكورة في نصوص مواثيق دولية، بصياغة محكمة واضحة وقاطعة، وهذا ما يمثل الشرعية الدولية بمفهوم القانون الدولي، وهذا مناط المشروعية ومعيار أحكامها من وراء مفعول القوة المتقلبة، لا سيما عندما تحتكر دون وجه حق صناعة القرار دوليا، فلا شرعية لما يخضع لشرعة الغاب بدلا من مشروعية المواثيق العالمية.  

وأستودعكم الله وأستودعه كل من يتفاعل مع قضايا الحق والعدالة، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.

التاريخفلسطين