معذرة من البداية، فهذه كلمات لا يسهل على كاتبها تعميمها عبر الأثير، إذ تمس ما يوصف في أدبياتنا الإسلامية بمخ العبادة وهو الدعاء، وبكثير من المخلصين الذين يجتهدون في أساليب "نشر الدعاء"، وليس على ذلك اعتراض في الأصل، إنما هي تساؤلات أو تأملات من قبيل مراجعة أنفسنا في كل أمر من أمورنا.
نعلم أن الدعاء يمثل الصلة الوطيدة المباشرة بين العبد وربه، بين إنسان خاشع بين يدي ربه عز وجل، وبين الله العزيز المحيط بكل شيء، الأقرب إلى الإنسان من حبل الوريد، وهو الذي يسمع السر وأخفى.
وقد ورد في الدعاء ما ورد، ومن أهم ما ورد أنه أصدق ما يكون في جوف الليل، فلا أحد يدري بالدعاء وبمن يدعو سوى رب الأرباب، وورد أنه لا حجاب بين دعوة المظلوم وبين الله جل وعلا.. وكثير من ذلك وما شابهه مما يعلم به عامة المسلمين وخاصتهم.
ما بالنا إذن وقد أصبحنا هذه الأيام نستقبل يوميا ونرسل ما لا يحصى من نصوص الدعاء، المأثور وغير المأثور، مما قد تكتبه أيدينا وهو قليل، وأكثر منه ما ننسخه ونلصقه ونطلقه عبر الأثير، فيصل إلى من نعرف ومن لا نعرف من البشر، وقد ننذر بالويل والثبور من لا يشاركنا ما نصنع ويعمم ما نعمّم، بل وصل بعضنا إلى ابتكار مواقع شبكية للتفنن في صياغة الأدعية وعرضها على الراغبين في نشرها.. ومواقع شبكية تلغي حتى عملية اختيار نص الدعاء أو القول المأثور أصلا، فأنت إن سجلت نفسك في الموقع، قام هو نيابة عنك "بدعاء رب العالمين".. ونشر نص يختاره الموقع يوميا ويعممه حيث تعلم ولا تعلم من أنحاء الأرض.. على البشر من بين مخلوقات رب العالمين.
هل هذا حقا هو المغزى من "مخ العبادة" ما بين العبد وربه؟
قد يقول قائل.. إن هذا من باب تعليم بعضنا بعضا كيف ندعو، وحث بعضنا بعضا على أن ندعو فعلا، أليس من المفروض أن يتركز تعليم الدعاء على الأساليب التي تعزز الصلة المباشرة بين العبد وربه؟ أليس هذا في مقدمة ما ينبغي أن نستشعره مع ازدياد وطأة المحن والمعاناة؟ ثم أليست الحصيلة التي يمكن أن نتكهن بها بصدد ممارسات "الدعاء الإلكتروني" دون هذه الصلة المباشرة، أو الحصيلة التي نقدرها موضوعيا، أن بعضنا أو أن كثيرا منا يميل إلى "التعريف بنفسه إلكترونيا"، وربما الاستغناء بذلك عن أن يخشع في الصلاة أو بعد الصلاة، أو في أي وقت من الأوقات "قياما وقعودا" ليردد ما يشاء من الأدعية بنفسه، بصوت ما بين الجهوري والخافت، مبتغيا بين ذلك سبيلا، فالله يسمعه في الحالتين، فإن كان صادقا خاشعا، استجاب له كما وعد في كتابه الكريم؟
أليس من تلك الحصيلة أن بعضنا أو أن كثيرا منا أصبحت "عملية النسخ واللصق والنشر" لديه مصدرا من مصادر الوهم أنه قد أدّى ما عليه، أو أهمّ ما عليه، بل ربما كان في ذلك تخديرا له أن ينظر فيما يستطيع تقديمه من عطاء مرئي ملموس يعين به من يعاني معاناة حقيقية ملموسة، من إخوته وأخواته حوله، ومن عامة المسلمين وحتى من سواهم من بني آدم، في عالم استنسر فيه البغاث واستأسد الطراطير؟
سبق ومرت بنا حقبة قريبة من الزمن انتشرت فيها عادة التغنّي بالقرآن تحت عنوان تجويده، وعادة الطرب إلى درجة التمايل والهتافات عند سماعه تحت عنوان الإصغاء إليه، ولم تقصّر وسائل إعلام (حديثة في حينه) في نشر تلك العادة ما بين عادات أخرى بمضامينها المشجعة على هجر الأخلاق والقيم وسلوك دروب المعاصي والفجور بأنواعها.. فهل زاد ذلك إقبالنا على القرآن الكريم أم ساهم في فهمه وتدبره وتطبيق ما فيه.. أم دفعنا حقا إلى سلوك الطريق الواجبة لتغيير ما بأنفسنا علما وتخطيطا وإنجازا وتفوقا وعملا وصبرا.. ليتغير بنا واقع مريض خطير من حولنا؟
وتمر بنا في هذه الحقبة الزمنية عادة تحويل استخدام وسائل التواصل الحديثة إلى ميدان تتحول فيه عباداتنا من عبادات إلى ما سوى ذلك، وإن حسنت النوايا في غالب الأحوال، إنما يقتضي حسن النوايا صواب العمل، وتقتضي العبادة الالتزام بمواصفاتها كما شرعت لنا.. وقد نجد أنفسنا بعد حين من الزمن، قد ضربنا رقما قياسيا في الكم الكبير مما ننسخ ونلصق ونرسل، ولم نضرب رقما قياسيا في دعاء حقيقي كما كان الصحابة رضوان الله عليهم، حتى كانت ليالي المدينة المنورة تشهد بانتشار أصواتهم في جوف تلك الليالي كأزيز النحل، وكل في بيته يصلي ويدعو خاشعا لا يراه إلا مولاه ولا يعلم بما يدعو به إلا خالقه جل وعلا، وأولئك هم الذين شاع في وصفهم أنهم رهبان في الليل فرسان في النهار، فهل أصبحنا كذلك بما نصنع عبر عالم افتراضي سيطر علينا وبات يستخدمنا بدلا من أن نسيطر عليه ونستخدمه؟
معذرة من جديد إلى كل من يمارس الدعاء (الرقمي الافتراضي) عبر الأثير، فليس القصد من هذه الكلمات توزيع اتهامات ولا النيل من النوايا والأشخاص.. إنما هي مراجعة لأنفسنا في باب "الدعاء" الذي نعتبره "مخ العبادة" ونعتبر العبادة واجبا فوق كل واجب سواه، كما نعلم أنها تشمل الدعاء والعلم والتعلم، والتلاوة والعمل والإنجاز، ونعلم أن الله لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصا صوابا، ونسأله تعالى أن نخلص النية ونختار الصواب على الدوام، في الدعاء وفي كل شأن من شؤوننا في هذه الحياة الدنيا الفانية.
نبيل شبيب