تأملات – الثورة على كف استهدافنا وأخطائنا

دخلت الثورة الشعبية في سورية في حلبة صراع الإرادات، دوليا وإقليميا، بينما أصبحت بقايا النظام في موت سريري، وتحاط اللحظة الراهنة بضباب مكثف لحجب الرؤية الواضحة، وهو خليط من ضباب أحداث جارية بالفعل، وأخرى "مزورة" عبر تضخيمها ووضعها في الصدارة وكأنها هي الحاسمة ويغيّب سواها الأهم منها.

مشهد الحدث أعقد من إمكانية تصويره بعبارات تعميمية، تصدر عن "العدوّ" وتصدر عمّن يقع في "فخ العدوّ"، وهذا ميدان حرب نفسية وحرب شائعات وحرب "شتائم" وتضليل إعلامي (حتى من داخل الصفوف) وهو من الميادين المؤثرة في اللحظات الحاسمة من جولات تغيير كبير.

لا تفيد مثلا أقوال تعميمية من قبيل:

انتهت الثورة، تم تدويل الثورة، انهارت الثورة داخليا، هذه مؤامرة دولية على شعب سورية…

ولا تفيد مقولات تعميمية أيضا من قبيل:

ستنتصر الثورة مهما صنع أعداؤها، والشعب صامد مهما بلغت المعاناة.. أو: لا توجد انحرافات وأخطاء…

لا تفيد أقوال تعميمية من قبيل:

من يتهم هيئة تحرير الشام لأنها تضم النصرة سابقا يخدم أغراضا أجنبية ويخون الثورة وشعبها..

ولا تفيد أيضا أقوال تعميمية من قبيل:

هيئة تحرير الشام تملك مفتاح النصر الميداني والانضمام إليها واجب شرعي..

فيما سبق وأمثاله بعض الصواب وبعض الخطأ، كما هو حال كل قول تعميمي، ولا نعود إلى مسار الثورة الشعبية كما انطلقت من خلال كلام حافل بالاتهامات والشتائم ومحاسبة الطرف "الآخر" دون قضاء وغضّ الطرف عن سواه، إنما المطلوب تحرك جماعي هادف، وهذا شروط برؤية واعية لمواطن الصواب ومواطن الخطأ، والحذر ممّا يُنشر لتضليلنا ومتابعة نشره بأنفسنا.

التحرك الجماعي الفعلي يطرح عبر اللقاءات والجهود المخلصة، ولا يفيد لذلك "مقال"، جلّ ما يمكن أن يصنعه دون الخوض في التفاصيل والخلافات هو السعي لرؤية اللحظة الراهنة ببصيرة وعمق لنعلم ما يترتب عليها، ونحدّد الخطوط الكبرى لما ينبغي صنعه، كي يخدم ما يترتب على أي عمل هدف الثورة المحوري: تحرير الإرادة الشعبية والوطن وأهله من كل استبداد داخلي وهيمنة خارجية.

نحتاج إلى رؤية اللحظة الراهنة.. الحاسمة، ومن مقدمات ذلك "فكفكة المشهد" الحالي لنتحرر من تصاعد المفعول السلبي الناجم عن رؤيته كما يراد لنا من خارج نطاق الثورة، لترهيب صاحب العلاقة الأعمق والأهم والمصيرية بالثورة.

بإيجاز: المطلوب في الجبهات المضادة هو إرهابنا بحيث نفكر ونعمل وفق ما يراد لنا، فإن أردنا التفكير والعمل وفق ما نحتاج إليه، وجب علينا أن نبصر المشهد على حقيقته دون تهويل من شأنه ولا تهوين، من خلال "فكفكة عُقَده".

. . .

من بين مؤشرات اللحظة الراهنة من مسار الثورة والتعامل معها:

(١) التيئيس على المستوى الشعبي..

لا ينتظر نجاح النافخين في كير التيئيس سوى جاهل بالشعب وما صنع ويصنع من "معجزات تاريخية" وجاهل بيقينه أن قلب المؤمن الصادق محصن وموصد تجاه كل شكل من أشكال اليأس والقنوط..

(٢) التركيز على أخطاء وانحرافات ميدانية، ذاتية ومصطنعة، كبيرة وصغيرة

المقصود (من جهة) نشر الوهم باستحالة استمرار فعاليات الثورة، ليس ميدانيا فقط، بل بأي تحرك سلمي أو مسلح أو سياسي والمقصود (من جهة أخرى) التخويف من حصيلة استمرار الثورة بدعوى احتمال وصول أطراف متطرفة منحرفة إلى قيادة المرحلة التالية..

ويوجد مؤشران آخران يكشفان قدرا كبيرا من التناقض والتخبط:

(٣) التغاضي عن تصعيد الفجور الأسدي في خرق الهدن المحلية والشاملة، وانتهاك جميع المحرمات (كما في سجن صيدنايا)..

(٤) تسليط الأضواء على انتقال قيادة القمع الميداني الهمجي وقيادة الفعل السياسي معا إلى قوى خارجية

التناقض كبير بين: 

هدف إعادة إنتاج "الخوف من النظام" الذي كسرت الثورة شوكته من اللحظة الأولى لاندلاعها، وبالتالي الترويج لخرافة تقول إن "النظام استطاع الصمود وسيصمد"..

وتصريحاتهم أن "النظام" ساقط لولاهم، وواقع استنجاده بهم، حتى أصبحوا يمسكون هم بزمام بقايا النظام من تلابيبهم، ولا يأبهون بإهانته وانكشاف سوءاته جميعا، ومنها أنه مسلوب الإرادة..

ويستحيل عليهم عبر هذا التناقض "ترهيب" الشعب الثائر أنه يواجه قوى "عاتية كبرى لا تنهزم، وأنها ستبدل موازين مسار الثورة وليس بعض المعارك والجبهات فحسب"..

الواقع أن الثورة شبّت عن الطوق بعدما كسرت الشوكة العسكرية والقمعية الفاجرة للاستبداد، وقد كان مدعوما خارجيا إلى حد كبير وكانت الإمكانات الثورية شبه معدومة بالمقارنة مع ما هي عليه الآن، وسوف تنكسر شوكة القوة العدوانية الإضافية الجديدة، ولا خيار أمام الثورة الشعبية سوى النصر، ولا مجال للشك في الاستمرار حتى يتحقق.

. . .

ومن بين المؤشرات الآنية أيضا:

(٥) التركيز على نشر انطباع ساهمنا في صناعته، أن مسار الثورة "الشعبية" تحوّل من ثورة ممكنة على استبداد محلي إلى نزاعات "فصائلية" يستحيل أن تتحرر من توجيهات قوى خارجية

لا يمكن فكفكة هذا الجزء من المشهد دون استحضار "لحظات" اندلاع الثورة، وكانت في وقت واحد ضد "استبداد محلي فاجر وقصور ذاتي خطير وهيمنة خارجية باغية".

جوهر المواجهة في مرحلة جديدة حالية لا يختلف عمّا كان عليه في مرحلة سابقة.

إن "أمراض الثورة" عبر السنوات الماضية، بدءا بالمحاصصة انتهاء بالفصائلية، إنما هي جزء من موروثنا نحن من العهد الاستبدادي.. ولقد اندلعت الثورة رغم تلك الأمراض ومن أجل الشفاء منها.. وهي جانب من دوائها.

بقدر ما كشفت الثورة "الكاشفة" عورة إجرام الاستبداد والهيمنة كشفت أيضا عوار الأخطاء والانحرافات في صفوفنا.. واستمرت الثورة.

والثورة مستمرة على ذات المحور الذي بدأت به.. قد يتأخر النصر ويتضاعف الثمن، ولكن لن ينقطع طريق التغيير على أرض الواقع، مهما كان من حملات لتصوير ما استجدّ في المرحلة الحالية من المسار وكأنها تمثل "منعطفا نهائيا" في مسار الثورة التغييرية نفسها.

لنذكر كم سبق من مراحل مختلفة متتالية، وكم شهدنا من مستجدات في كل مرحلة.. وبقيت الثورة مستمرة..

ولنعلم أنه لا يوجد منعطف "نهائي وأخير" سوى المنعطف إلى حالة النصر والتغيير.

. . .

من مؤشرات اللحظة الراهنة أيضا:

(٦) آخر درجات التوافق (التواطؤ!) بين موسكو وواشنطون، وتعديل الموقف التركي وبقاء الإيراني على حاله

هذا الذي يدور الآن في الساحات السياسية عبارة عن "فصل" سياسي آخر، هو جزء من "اللعبة الدولية" التقليدية، وليس "جزءا" من جوهر الثورة التغييرية نفسها.

ثم إن قرار التوافق الدولي بخطوطه الكبرى قائم من قبل ما سمي جنيف-١، وبدأ الأن فصل آخر في مساره فحسب، أي سبق بذل أقصى الجهود لتأمين شروط التنفيذ ولم يتحقق ذلك، ومجرد طول الانتظار "الدولي" (وليس انتظار من يعانون من الشعب الثائر فقط) يعني حالة عجز دولي صارخ، أما ظهور العامل التركي بمعطيات جديدة في تلك "اللعبة الدولية" فهو العنصر الطارئ فعلا، ولكن لا يزال بمعالمه الكبرى على حسابها وليس لحسابها.

(٧) مناقشات لانهائية داخل حلبات التفاوض ومن يريد أو يراد له الدخول فيه

ليس هذا المؤشر جديدا، ولكنه يلبس مع كل "مؤتمر" رداء جديدا.

مع كل التقدير للمخلصين ممّن يسلكون طريق التفاوض، يبقى أن جوهر المساومة التي يواجهونها باستمرار هو:

إذا أضفتم من نريد إليكم (ليمثلنا.. وليس ليمثل الشعب) تحت عنوان توسعة هيئاتكم التفاوضية..

وإذا وافقتم على شروطنا كما وضعناها لكم..

وإذا تعهدتم علنا أو وراء الكواليس بما نطالبكم به لما بعد إسقاط "النظام"..

وإذا… وإذا..

فسوف تصبحون أنتم "عنوانا" للسيطرة -كما نريد نحن- على مسار الثورة الذي لم يستطع أحد حتى الآن أن ينتزع مقوده من صانعي الثورة وصانعي مسارها داخل الوطن.

ربما أدرك في هذه الأثناء ممثلو القرار الثوري السياسي من السوريين في حلبات التفاوض، أن الوعود الباطلة لا تغني من الحق البيّن شيئا، وأنهم حتى لو استجابوا "صادقين" للمطلوب "دوليا" منهم، فلن يجد طريقه إلى صناعة مرتكزات له داخل الوطن ليمكن تمريره على حساب مسار الثورة، بقوتها الشعبية الذاتية، أي بغض النظر حتى عما تحقق في معارك متواصلة من أجل "تطويع الفصائل وتصنيفها" ومن إجرام دولي متواصل لتطويع شعب سورية.

إن قوة المفاوض، وقوة أي عمل سياسي باسم المعارضة أو تمثيل الثورة، أو عبر حكومة ما، أو من خلال مشاركة في مفاوضات، هي أولا وأخيرا قوة نسبية، تنمو بقدر ارتباطها بمسار الثورة الشعبية التغييرية، وتضعف بقدر تناقضها معها.. وهذا الارتباط هو –وحده- مصدر مشروعيتها.

. . .

مهما بلغت كثافة الضباب حول مشاهد اللحظة الراهنة، فجوهر مضاعفة الجهود المعادية الدولية هو التعبير عن إدراك القوى المعنية أن المنعطف الحقيقي يتمثل في ترجيح أن بقايا النظام عاجزة وساقطة لا محالة، آجلا لا عاجلا، فلا بدّ من العمل لتوريث دورها القمعي للشعب وإرادته.. هذا ما تريد الهيمنة الدولية تحقيقه، وليس إنقاذ بيدق صغير من بيادقها.

أما المطلوب من منطلق الثورة وشعبها فهو العمل من أجل الحيلولة دون اختطاف مسارها، لتتابع طريقها للتحرر من مختلف أشكال الاستبداد والهيمنة وإكراه الشعوب على ما لا تريد.. ولا مشروعية لاتخاذ أي قرار مسبقا ما دام "سياديا"، كالدستور مثلا، فالشعب سيد نفسه.

عند تحقيق هدف التحرر في سورية -كما في أخواتها- يمكن الشروع في إعادة البناء وفق الإرادة الشعبية المتحررة.

نبيل شبيب