تنظيمات
أثار تأسيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين آمالا كبيرة أن يكون فيما يقدمه للإسلام والمسلمين خير كبير يحقق مصالحهم ويقربهم من تحقيق أهدافهم المشروعة. وهذه خطوة في بداية الطريق، سبقها إعداد طويل، ويرجى أن تتبعها خطوات أخرى، وأن يتسع نطاقها فيتلاقى العدد الأعظم من العلماء، الذين يحملون الأمانة على عواتقهم، والذين يزداد تطلع عامة المسلمين نحوهم ليكونوا هم رواد جمع شمل الأمة، والنهوض بها إلى المكانة الجديرة بها، وهذا في مرحلة شديدة الخطورة على المسلمين وعلى حاضرهم ومستقبلهم.
اتحاد لأهل القبلة
وصحيح أن تأسيس الاتحاد لم يكن في عاصمة بلد إسلامي، بل انعقد الاجتماع في لندن واتفق على دبلن مقراً له (أصبح له لاحقا مقر في الدوحة في قطر) إلا أن هذا يساهم في تمكينه من أداء دور إيجابي في وجه الحملة الهائجة المنطلقة من أوساط متنفذة في الغرب. والواقع أن المرحلة الراهنة تفرض على الاتحاد أن يجعل هذه المهمة في مقدمة اهتماماته، إلى جانب العمل على ترجمة ما دعا إليه بشأن وحدة علماء المسلمين إلى واقع ملموس وشامل، فالاتحاد الذي تأسس يوم ٢٣ جمادى الآخرة ١٤٢٥هـ و١١/ ٧/ ٢٠٠٤م هو -وفق كلمات القرضاوي- للمسلمين جميعا، عربهم وعجمهم، أبيضهم وأسودهم، مشرقيهم ومغربيهم، ليس محسوبا على قطر من الأقطار، ولا نظام من الأنظمة، ولا جماعة من الجماعات، ولا مذهب من المذاهب، ولا اتجاه من الاتجاهات، إنه لأهل القبلة، أهل لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
كما أنه -كما أضاف القرضاوي- للعلماء والعالمات، فالنساء شقائق الرجال، وعلماءُ الأمة مجمعون على أن المرأة يمكن أن تصل إلى درجة الاجتهاد المطلق، وأن تتولى منصب الإفتاء.
وقد حرص المجتمعون على إظهار رغبتهم في ممارسة علاقات التعاون إسلاميا، إذ يعطون الاتحاد سمات محددة، منطلقها القيم الربانية الداعية إلى توحيد الله وإفراده بالألوهية، ويراد من خلاله التعبير عن المذاهب والمدارس الإسلامية كافة، ومصلحة الأمة، وخير الإنسانية جمعاء، ولا يرى الاتحاد نفسه بديلا عن المؤسسات القائمة في البلدان الإسلامية أو خارجها، بل يرجى أن يكون إضافة مهمة إلى عمل هذه المؤسسات، هذا علاوة على تأكيد أن اعتماده على ثقة الشعوب المسلمة، واستقلاليته عن الأنظمة، لا تعني معاداة الحكومات، بل يراد بذل الجهد لفتح نوافذ التعاون معها على ما فيه خير الإسلام والمسلمين، فضلا عن تأكيد عدم الجنوح إلى الغلو والإفراط، أو الميل إلى التقصير والتفريط، فالاتحاد يتبنى المنهج الوسط للأمة الوسط وهو منهج التوسط والاعتدال، وعن ذلك ينبثق الحرص على الدعوة وعلى الحوار على أساس الحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن.
سمات الاتحاد أو منطلقاته، التزاما بالإسلام وعالميته ووسطيته، وبالحوار والتعاون، لم تمنع بطبيعة الحال أن يعدد البيان الختامي -إلى جانب العمل الإيجابي البناء- موقف الرفض إزاء التيارات الهدامة وتيارات الغلو والتشدد، مؤكدا أيضا توصيف احتلال فلسطين والعراق وأفغانستان أنه عدوان يجب على كل قادر مقاومته بما استطاع، دون الاعتداء على الأبرياء أو مقاتلة النظم التي قد يُظنّ أنها موالية للأعداء.
ومع كل ما أعلنه الاتحاد عن نفسه يوم تأسيسه، يبقى أن المرحلة القادمة هي التي ستحكم حول مدى تحقيق الغاية منه، وهو ما يُرجى له ولمستقبل المسلمين من خلاله، سواء على مستوى تأثيره المباشر في دور بناء الجسور بين أعضاء الجسد الإسلامي الممزق حاليا، أو دور فتح نوافذ الحوار داخل العالم الإسلامي وعلى المستوى العالمي.
على الأرض الأوروبية
ويأتي تأسيس الاتحاد في البداية في دولة أوروبية ليفتح آفاقا جديدة، قد تلعب دورا إيجابيا في مواجهة حملة تضليل واسعة النطاق، تعتمد اعتمادا كبيرا على انتقائية شبه دائمة، في اختيار أشخاص يرفعون عنوان الإسلام وتعطي مواقفهم وأقوالهم صورة سلبية عنه، فتتولى وسائل الإعلام نشرها وتضخيمها والإضافة إليها، ثم توظيف الحصيلة في تسويغ الحملة المتصاعدة حدة وعنفا.
وعلى قدر ما يثبت الاتحاد العالمي للعلماء وجوده على أرض الواقع، سيصعب تجاوزه، وبالتالي تجاهل الوجه الإسلامي الوسطي القائم على دعوة الرحمة والخير والهداية. ومما يدعم ذلك صدور المبادرة عن الشيخ يوسف القرضاوي، فقد عُرف في أوروبا في السنوات الماضية من خلال رئاسته للمجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، الذي دأب على دراسة أوضاع المسلمين في الغرب، وإصدار الفتاوى والتوجيهات العامة لهم، بما يراعي ظروفهم الخاصة، ويواكب الأحداث الجارية، ويحرص على بيان سبل اندماجهم في المجتمع دون ذوبان هويتهم الإسلامية وتميزهم بها، وقد ازدادت مكانة المجلس على المستوى الإسلامي-الأوروبي، وبدأت مواقفه تلفت الأنظار إليه. وجاء انعقاد دورته الثالثة عشرة قبيل انعقاد الاجتماع التأسيسي لاتحاد العلماء مباشرة، وبدأ فيها بدراسة قضايا الأسرة المسلمة تمهيدا لإصدار قرارات بشأنها في الدورة التالية، كما أصدر عددا من التوصيات حول علاقة المسلمين في الغرب بالمجتمعات التي يعيشون فيها، وضرورة مراعاة القوانين السائدة مع تميز الهوية الإسلامية، وضرورة التحرك الإيجابي في مختلف الميادين مع الحرص على أحكام الشريعة.
ويشير إلى المكانة الخاصة للمجلس إخفاق الحملة الإعلامية البريطانية التي تعرض لها رئيسه القرضاوي عام (٢٠٠٤م) والرد عليها من جانب عدد من المسؤولين، لا سيما عمدة لندن كِـن لفنجستون، الذي شارك في الجلسة الافتتاحية وركز على الترحيب بالقرضاوي، وكان من كلمته قوله: وأذكّر بأن موقفنا حيال قضية الحجاب موقف مبدئي نناصر فيه المرأة المسلمة التي ترغب في ارتداء الحجاب ممارسةً لشعائر دينها. وقد كان لي حوار مع رئيس الوزراء الفرنسي أعربت فيه عن موقفي هذا، وعن انزعاجي لقانون حظر الحجاب الذي سُنّ في فرنسا مؤخّرا. وأضاف مشيرا إلى مناصرته لقضية فلسطين وموقف المسلمين في بريطانيا، ومناهضته لجرائم الاحتلال الإسرائيلي، ومعارضته أيضا للحرب ضد العراق وإدانته قرار الحكومة البريطانية بشأن الاشتراك فيها.
ولا يزال حجم التواصل بين المسلمين وأصحاب المواقف المنصفة من الدوائر السياسية والفكرية والثقافية والإعلامية بأوروبا، دون المستوى الواجب والممكن، ومن الأسباب الرئيسية لذلك افتقاد مرجعية مشتركة لها مكانتها، وكانت المحاولات الفائتة في هذا الاتجاه تفضي غالبا إلى تشكيل مزيد من التنظيمات دون أن يرقى أحدها إلى مستوى اجتماع الكلمة حوله، لا سيما وأن المرجعية لا تحتاج فقط إلى استيعاب المذاهب والاتجاهات والانتماءات المتعددة للمسلمين فقط، بل تحتاج أيضا إلى ثقل علمي وفقهي، يسمح بالتلاقي حولها. ولعل النجاح التدريجي في التعويض عن هذا النقص عن طريق المجلس الأوروبي للإفتاء، يبشر بأن يمثل الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ثقلا إضافيا بوزن عالمي وعلمي، ليكون له التأثير المرجو في مستقبل الوجود الإسلامي المتنامي تناميا ملحوظا في مختلف الاقطار الأوروبية، بغض النظر عن المهام الرئيسية الأخرى التي يحملها الاتحاد على مستوى العالم الإسلامي.
وأستودعكم الله في كل مكان ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب