بين عالم افتراضي وعالم الواقع

ـــــــــــ

(هذه كلمات نشرت عام ٢٠٠٤م في ذروة استخدام العالم الافتراضي في جولات جهاد الكلمة لصالح “المقاطعة” وضد “التطبيع” ويسري محتواها على وضع مشابه في عصر الثورات الشعبية للتغيير الجذري)

*        *        *

انتشر استخدام شبكة العنكبوت العالمية وسيلة للتعبير عن “معارضة” وطرح دعوات التغيير وتنسيق ممارسة نشاطات وفعّاليات مختلفة على هذا الصعيد، بدءا بالتعريف بالجهات المعارضة والداعية إلى التغيير، مرورا بعرائض جمع التواقيع احتجاجا على بعض الممارسات، وانتهاء بالتداعي إلى المظاهرات والتجمّعات الاحتجاجية. وحققت هذه الصيغة الجديدة نسبيا نجاحا جزئيا في بعض الأحيان، وبقيت في حالات عديدة “زوبعة في فنجان شبكي”، لا تتجاوز حدود جدران افتراضية في عالم افتراضي بعيد عن الواقع.

معالم مميزة لفعاليات العالم الافتراضي
أولى الملاحظات على صعيد النشاطات الشبكية للمعارضة ودعوات التغيير، هي ذلك الفارق الكبير بينها (١) في بلدان تعرف “المعارضة” بصورة رسمية في إطار تعددية سياسية وفكرية قديمة، وذاك حالها في معظم البلدان الغربية، داخل حدود منظومتها للقيم والنهج السياسي، وبين (٢) تلك الفعّاليات في بلدان تُعتبر المعارضة فيها محظورة أو مقيدة وملاحقة، وتُعتبر التعددية فيها منعدمة قهرا، أو هي شكلية دون أثر كبير، أو محظورة ملاحقة، كما هو الحال في معظم البلدان العربية والإسلامية، وهنا يصبح التواصل عبر العالم الافتراضي آنذاك سلاحا ذا حدّين، ما بين تحقيق هدفه، وثغرات التجسس على مستخدميه.

إن الاستعانة بالشبكة العالمية في الغرب وسيلة “إضافية” للتعبير عما تريده المعارضة ودعوات التغيير إلى جانب وسائل أخرى عديدة، هي الوسائل الفعالة المعتمدة في عالم الواقع، مما يجري عبر الأحزاب وما يُسمى تشكيلات المجتمع المدني.
أما في البلدان العربية والإسلامية فيكاد يصبح العمل عبر العالم الافتراضي من جانب المعارضة ودعاة التغيير هو البديل الذي يراد من خلاله تعويض الحرمان من الوسائل الفعالة المرخص بها قانونيا والمضمونة التأثير في عالم الواقع، هذا إلى جانب عدم وصول البديل الافتراضي إلا إلى نسبة متدنيّة من السكان، نتيجة المعطيات الاجتماعية والتقنية وغيرها.
من الجوانب الإضافية التي تطرحها هذه المشكلة، أن فعاليات المعارضة ودعوات التغيير في العالم الافتراضي يمكن أن تنشر وهما كبيرا بتحقيق الهدف المطلوب، فما يتم رصده من تجاوب يرفع نسبته تواري الأسماء الحقيقية للتأييد والتعبير عن الرأي وراء أسماء مستعارة، وهذا ما يدفع إلى الاعتقاد بأنه تجاوب كبير، لا سيما إذا كان الاعتراض على تلك الدعوات ضعيفا أو منعدما، فلا يؤخذ بعين الاعتبار كأمثلة:
١- أن المتجاوبين في غالب الحالات هم أنفسهم، مما يجعل الدعوة إلى التغيير لا تحقق الغرض الأهم منها وهو نشرها على نطاق أوسع ممن يتبناها في الأصل حتى ولو لم تصل الدعوة إليه.
2- أن كثيرا من الأسماء المستعارة في العالم الافتراضي لا يتبنى أصحابها الدعوات إلى التغيير علنا في عالم الواقع بأسمائهم الصريحة، بينما المطلوب إحداث التغيير في عالم الواقع وليس في “الشبكة”.
3- أن سهولة الاعتراض في عالم الشبكة تغري بممارسته، بينما لا يتحقق التغيير المرجو من الاعتراض فعلا، وقد يولّد رصد العجز المتكرر مشاعر الإحباط والفشل فيفضي إلى اليأس والإخفاق.

مثال حملة المقاطعة
عندما اتّخذت الدعوة إلى مقاطعة السلع والخدمات الأمريكية من الشبكة وسيلة لنشرها، جاء ذلك في فترة معيّنة، وفرت تلقائيا عددا من العناصر الداعمة لاحتمالات النجاح في عالم الواقع، ومن ذلك مثلا:

1- مجرى الأحداث الدامية في فلسطين وتغطيتها الإعلامية وآثار ذلك المباشرة على العامة وهم المستهدَفون في دعوات حملة المقاطعة.
2- اقتران الدعوات الشبكية بسلسلة من الأعمال الأخرى في عالم الواقع، من فتاوى العلماء وخطبهم ومواقف جهات غير حكومية على نطاق واسع نسبيا.
3- نشوء عدد من التنظيمات على شكل لجان قطرية والتواصل فيما بينها وما أسفر ذلك عنه من تبادل المعلومات والخبرات والتشجيع المعنوي.

مقابل ذلك وأمثاله من عناصر النجاح، افتقرت هذه الحملة نفسها إلى عدد من العناصر التي كانت ضرورية لاستمرار نجاحها وتصعيدها، ومن ذلك على سبيل المثال دون الحصر:
1- أثناء اعتماد الجانب العاطفي الحماسي إلى جانب الوازع الديني كقوة رئيسية، اضمحل الاهتمام الضروري برصد احتمالات ضعف مفعول الحملة، في الوقت المناسب، لا سيما عند “الاعتياد المؤسف” على مأساوية الأحداث رغم ضخامتها.
2- افتقاد الصيغة الشمولية العامة (الاستراتيجية) البعيدة المدى التي تضع في حسابها اعتبارات عديدة، شاملة لما تعنيه المقاطعة على أرض الواقع، والتفاعل مع آثارها، بدءا بأماكن العمل، مرورا بتوفير البدائل ودعمها، وانتهاء بالمرحلية الضرورية التي تسمح بتصعيد الحملة من فترة إلى أخرى تصعيدا واقعيا.
3- الخلط غير المنهجي بين معلومات حقيقية ترصد آثار المقاطعة هنا وهناك، وبين معلومات يروج لها المتحمسون للمقاطعة دون اختبار حقيقتها، مع ما يعنيه ذلك من سلبيات عند اكتشاف عدم صحتها.

ومن الأمثلة على التحرك على أرض الواقع تحركا مضادا للمقاطعة:
1- الحملة السياسية على وسائل الإعلام في إطار إضعاف تأثير الأحداث على المستوى الشعبي، لا سيما ما يرتبط مباشرة بالإمكانات الشعبية الذاتية لمواجهتها مثل المقاطعة ومكافحة التطبيع.
2- حملة التخفيضات والإغراءات المالية والدعايات الكاذبة لصالح الشركات المستهدفة بالمقاطعة.
3- الضغوط “التجارية” المباشرة من جانب تلك الشركات على المتاجر الصغيرة التي بدأت تركز على بعض البدائل، مثل “مكة كولا” و”زمزم كولا” دون التخلي عن السلع الأمريكية المقابلة، لتمتنع عن بيع تلك البدائل الإسلامية.
4- تجنّب نشر المعلومات عن نتائج المقاطعة في فترة نجاحها الأولى، والتضخيم من شأن المعلومات عن إخفاقها في فترة تراجعها التالية.

شروط أساسية للنجاح
إن النجاح في استخدام الشبكة على صعيد المعارضة والثورة والتغيير، رهن بالربط بين العمل في العالم الافتراضي وعالم الواقع معا، وهو ما يتطلب تأمين عدد من العناصر، في مقدمتها:

1- ضرورة “التنظيم” الذي يعتبر إكسير حياة أي حملة في العالم الافتراضي كعالم الواقع على السواء.

2- الجمع بين العمل من خلال “أسماء مستعارة” – إذا دعت الضرورة – في عالم افتراضي والعمل من خلال “أسماء صريحة” في عالم الواقع وعبر أعمال اللجان المعنية.

3- جمع معلومات أساسية كافية ومضمونة الصحة حول ميدان أي حملة للعمل في العالم الافتراضي وعالم الواقع واعتبارها هي الأساس للتقويم والتخطيط.
4- تجنب مختلف صور التهويل من شأن العمل ونتائجه، أو التهوين من شأنه، ومختلف صور التطرف بدعوى نشر الحماسة، والربط المتوازن بين الفعاليات الهادفة إلى إحياء الوجدان كمحرّك للعمل لا غنى عنه، وبين العقلانية كضابط لمسيرته لا غنى عنها.
5- تحويل العمل في العالم الافتراضي إلى “منطلق” للحملة، ثم وسيلة إضافية لمتابعتها وتنسيقها، بدلا من أن يكون “ميدانها الرئيسي”، واعتبار الميدان الرئيسي هو عالم الواقع نفسه.
6- اعتماد المرحلية الواقعية المدروسة القائمة على معرفة الظروف والطاقات المتوافرة، لتحديد أهداف كل مرحلة على حدة، وتقويم النتائج، واعتماد ذلك في تحديد أهداف المرحلة التالية، دون استباق تلك النتائج قبل أن تصبح ملموسة على أرض الواقع.
7- مضاعفة التواصل بين العاملين في الفعاليات والنشاطات في عالم الشبكة الافتراضي من جهة، وبينهم وبين التنظيمات والمؤسسات والجهات العاملة في عالم الواقع من جهة أخرى، واعتبار التنسيق والتعاون على هذا الصعيد ضرورة لا غنى عنها لتحقيق النجاح المرحلي والبعيد المدى على السواء.

نبيل شبيب

عالم افتراضي،