ذاكرة ثورية
أعترف أولا بفتور القلم عن التحرك للكتابة لأسباب عديدة، فجاءت أيام انتصار الثورة الشعبية في سورية وتضافرت مع متابعة الأوضاع الفلسطينية الحالية، لتدفع دفعا إلى محاولة التعبير مجددا بالقلم عما في النفس والفكر، وقد بدأ ذلك بين الفجر وشروق الشمس من يوم السبت ٨ / ١٢ / ٢٠٢٤م، عندما رنّ جرس الهاتف الخلوي، وكانت زوجتي على الطرف الآخر، ورغم أنها على سفر عند بعض الأقارب، لم ينشغل بالي بسبب الاتصال في وقت مبكر، كما لم يفاجئني قولها: قم، هيّا، واحزم الحقائب! بل أجبت مداعبا أيضا: لقد بدأت بحزمها وأنتظر عودتك لنعود معا إلى الأهل والوطن.
* * *
أدركت أنها مثلي ومثل ما لا يحصى من المغتربين ومن المهجّرين والمشردين، كانت تتابع أخبار الوطن عن بعد، وأنها علمت مثلي بسقوط بقايا النظام الأسدي، فكانت العودة أول ما خطر على بالها؛ مثلما خطرت على بالي أيضا.
وعادت إلى مخيلتي وأنا أكلمها صور عديدة من حياتنا في المغترب، وغلب عليها مشهد عايشناه ونحن في سنّ الشباب، أثناء ما بات يعرف بأحداث حماة أو الأحداث التي شملت سورية في ثمانينات القرن الميلادي العشرين، فقد جئتها يوما وأخبرتها أن أستاذنا عصام العطار رحمه الله، أشار علي -وكنت أدير تحرير مجلة الرائد منذ أعوام- أن يظهر اسمي الصريح بهذه الصفة على غلافها، الذي يحمل وصفها بمجلة الطلائع الإسلامية، وطلب إلي أن أفكر بالموضوع مليّا، وأن أشاور زوجتي أولا، فقد يكلفنا ذلك الحرمان من زيارة الوطن قبل تحرره من تسلط الاستبداد الأسدي عليه.
لا أنسى موقفها آنذاك وهي توافق وتشجعني على الموافقة رغم التبعات المنتظرة، والمرجحة بعد أن مالت الكفة بالتحرك ضد التسلط الأسدي آنذاك، وظهر أنه لن يصمد طويلا بعد ما ارتكبه الأسديون من جرائم ومذابح.
وفعلا كلفتها الموافقة الحرمان من زيارة الأهل لأكثر من عقدين من الزمن، إلى جانب حرماني من الزيارة أيضا منذ ما يناهز خمسة عقود من الزمن قبل أن نسمع صوت البشير بسقوط العصابات الأسدية.
* * *
أكتب هذه الكلمات وأرصد أنها تقاوم أن يسكبها القلم للنشر في ذاكرة الأيام، إذ أسائل نفسي مع متابعة مشاهد الإفراج عن بعض الكرام الأحرار من السجون الأسدية، كيف قضت طل الملوحي زهاء ثلاثة عقود وراء القضبان، بسبب كلمات عن الحرية نشرتها في مدونتها، وهي طالبة في عمر الصبا، حتى أصبحت بمنزلة أيقونة مبكرة للثورة الشعبية، نظرا لما أثارته من تفاعل جيل الشبيبة معها من قبل انطلاقه بالثورة عام ٢٠١١م؟ كما أتساءل عن حالات أخرى لا تحصى، منها كيف رفض الطيار الشاب رغيد الططري إلقاء القنابل من طائرته على حماة الثائرة، فقضى بضعة وأربعين عاما فيما يصفه السوريون بالمسلخ البشري في صيدنايا.
يا أيها الأحرار من المعتقلين والمعتقلات، كم لكم من فضل علينا ونحن نحسب أنفسنا من العاملين والناشطين؛ لقد علمتمونا الفرق بين من يدفع ثمن الحرية دما وعذابا، ومن يدفع ثمن الحرية حبرا وحرمانا. كلا… لا يستويان مثلا، مهما قيل مجاملة وإحسانا.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.