ورقة بحثية
مخاض أوروبي والطبيب أمريكي – مجرد حوار أطلسي؟ – ممارسة الحكم الخفي
في الفترة ١١-١٤ حزيران / يونيو ٢٠١٥م انعقد اللقاء الثالث والستون لمنظمة بيلدربيرج، التي توصف بحكومة العالم الخفية، بمشاركة ١٤٠ شخصية من ٢٢ بلدا، في منطقة تيلفس النمساوية، وعند الرجوع إلى عناوين حواراته حسب الصفحة الرسمية للمنظمة نجد:
الذكاء الاصطناعي، الأمن الشبكي، مخاطر الأسلحة الكيمياوية، القضايا الاقتصادية الراهنة، الاستراتيجية الأوروبية، العولمة، اليونان، إيران، الشرق الأوسط، حلف شمال الأطلسي، روسيا.
هذه عناوين قضايا مطروحة علنا في منتديات عالمية أخرى معروفة، فعلام تسود إذن السرية المطلقة التي تحاط بها في “بيلدربيرج”؟ من ذلك حظر أي وجود إعلامي، وعدم نشر حصيلة ختامية أو توصيات أو ما شابه ذلك مما يستهدف كسب التأييد عادة، وكيف يمكن التوفيق بين “السرية” وبين نفقات الإجراءات الأمنية الضخمة على حساب دافعي الضرائب في البلد المضيف، كما أظهر سؤال نيابي في فيينا (يوم ٨ / ٦ / ٢٠١٥م) احتجاجا على تلك النفقات؟
مخاض أوروبي والطبيب أمريكي
في عام ١٩٥٤م نشأت المنظمة أو عقد مؤتمر بيلدربيرج، كما سمّت نفسها لاحقا، وتزامن تأسيسها سرا، انكشف بعد عشرة أعوام تقريبا، مع تأسيس تجمعات مشابهة علنا، مثل منتدى ميونيخ للشؤون الأمنية -لشؤون التسلح سابقا- ومنتدى ديفوس أو المؤتمر الاقتصادي العالمي.
القاسم المشترك بينها جميعا هو عقد لقاءات دورية غير رسمية لنخب مختارة من أصحاب النفوذ للتأثير على صناعة القرار عالميا، إنما توجد تجمعات أخرى تحاط أنشطتها بالسرية أيضا، مثل مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، وما يسمى دار شاتهام / Chatham في لندن، والقاعدة الأساسية في بيلدربيرج هي: (من حق المشاركين استخدام ما يحصلون عليه من معلومات، شريطة عدم بيان ارتباطها بشخص أو مواصفاته، ممن أدلى بها في اللقاءات).
هذا عنصر واحد للسرية التي تحيط بمنظمة بيلدربيرج، ويعرضها لحملات نقد شديدة منها وصمها بحكومة العالم الخفية، وكانت لقاءاتها نصف سنوية، وأصبحت سنوية منذ عام ٢٠٠٩م، وتقول عن نفسها إنها مجرد (لقاء سنوي لمدة ثلاثة أيام صبغته تعميق الحوار بين أوروبا وأمريكا الشمالية)، ولهذا تقتصر الدعوة على شخصيات من دول حلف شمال الأطلسي، من أصحاب الاطلاع على معلومات من العيار الثقيل أو من صناع القرار السياسي والعسكري والاقتصادي والفكري والإعلامي.
وتعود مركزية العلاقات الأطلسية إلى النشأة الأولى للمنظمة عقب تأسيس الحلف مع بداية الحرب الباردة، بعد مخاض عسير، خاضته الرغبة الأوروبية في دعم العلاقات بين جانبي الأطلسي على خلفية خروج الدول الأوروبية للتوّ من سلسلة حروب متوالية منذ قرون، وتنعكس هذه الولادة الأوروبية في انعقاد المؤتمرات بنسبة الثلث في أمريكا الشمالية، والثلثين في الدول الأوروبية الأطلسية، ومنها تركيا (عامي ١٩٥٩ و١٩٧٥م).
صاحب الفكرة جوزيف ريتينجر البولندي، وأصبح لاحقا أول سكرتير للاتحاد الأوروبي، فحمل لقب الأب الروحي للاتحاد، وكان في شبابه قسيسا كاثوليكيا ومن الطبقة الأرستقراطية، وكوّن في المنفى أثناء الحرب العالمية الثانية شبكة علاقات مكثفة مع كبار المسؤولين، مثل تشرشل ودالاس، واتُهم أثناء الحرب بأنه جاسوس الفاتيكان بعد اقتراحه على رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك كليمنصو تشكيل دولة ملكية أوروبية بإدارة اليسوعيين.
وأسس ريتينجر بعد الحرب الحركة الأوروبية، فحصلت على دعم مالي أمريكي، عبر المخابرات المركزية، وعبر اللجنة الأمريكية من أجل أوروبا موحدة، واستقال عام ١٩٥٢م من الحركة، ليؤسس المنظمة التي عرفت لاحقا باسم بيلدربيرج. وقد بذل جهودا كبيرة لعب فيها رئيس المخابرات المركزية الأمريكية بيديل سميث دورا رئيسيا، حتى تمت الموافقة على المشاركة الأمريكية والكندية والتوافق على شخصيات ألمانية، فتبنى الأمير الهولندي بيرنهارد الدعوة إلى المؤتمر الأول في فندق بيلدربيرج، ببلدة أوستربيك الهولندية عام ١٩٥٤م.
آنذاك غابت مشاركة شخصيات من بعض دول الحلف، ولكن شهد عام ١٩٨٩م قفزة رئيسية في المشاركة مع نهاية الحرب الباردة وتجدد التنبؤات أو المخاوف من انتهاء وجود الحلف نفسه بسبب انتهاء مهمته واقعيا.
مجرد حوار أطلسي؟
هذه الصورة الرسمية عن نشأة المنظمة اهتزت مع غياب ما يؤكد الحفاظ على الدوافع الأولى لصاحب المبادرة، وتضاعفت الشكوك بسبب سرية تعاطي المنظمة مع صناعة القرار عالميا، وبالمقابل يصعب الجزم بشأن التكهنات حولها، إذ تعتمد على مؤشرات عامة، ولا توجد دراسات موضوعية قاطعة.
من المؤشرات في اتجاه حكومة خفية:
١- المشاركة من جانب كبار المسؤولين حاليا أو سابقا، من مؤسسات مالية كبرى وشركات عالمية ومنظمات دولية، مثل دويتشه بنك (آشلايتنر) والمصرف المالي العالمي (فولفنزون) واتحاد شركات إيرباص (إندرس) والاتحاد الأوروبي (باروسو) وشركات لاتسارد (كينيث) ومايكروسوفت (موندي) ومنتدى ديفوس (شفاب)، ومن قادة حلف شمال الأطلسي (كلاس وكارينجتون).. وغيرهم.
٢- لا ريب في تأثير التوجه السياسي على تكوين الأجهزة، فعند النظر مثلا فيمن ينتسب إلى تركيا، وهي عضو في الحلف، لا نجد أحدا ممن تصدروا المشهد السياسي والاقتصادي من حزب العدالة والتنمية عبر السلطة المنتخبة، ولكن نجد شخصيات من حزب الشعب الجمهوري ومن قطاعات إعلامية وجامعية أقرب إليه (سيلين سايك بوكي، وزولي أوزال، وموراي ميرت وغيرهم).
٣- غموض كيفية اختيار المسؤولين، وكيفية إدارة الشؤون المالية والتنظيمية، وكيفية توزيع الصلاحيات والمهام.
٤- غياب المتابعة الإعلامية، فبعض الحضور من كبار أصحاب المال في القطاع الإعلامي، يتعهدون بالحفاظ على السرية، ولم يخرقوا تعهداتهم عبر عدة عقود، وحتى جدول أعمال المؤتمر لا يعلن للإعلام إلا بعد انتهائه، في شكل عناوين دون تفصيل، ولا يتلقى المشاركون في مؤتمرات سابقة (كما ذكر الأمين العام الأسبق للأطلسي كلاس في مقابلة إذاعية) سوى تقرير عن محتويات النقاش دون أسماء، علاوة على نص تفسيري منذ عام ١٩٦٣م.
٥- غياب “دستور” أو “نظام داخلي” معلن، إنما تظهر الهيكلية التنظيمية في أربعة مستويات:
(١) الرئاسة (حاليا الناطق باسم اتحاد شركات آكسا الفرنسية ووزير المالية الأسبق هنري دي كاستريس) وتعمل مع الرئاسة سكرتارية ضخمة نصف أفرادها من المتفرغين.
(٢) اللجنة الاستشارية، أبرز من فيها عضو الشرف ديفيد روكيفلر أشهر أصحاب النفوذ المالي والمصرفي عالميا، وعضو الشرف وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسينجر، ويتولى على الأرجح تحديد قائمة المشاركين في كل مؤتمر دوري على حدة، وتوجه الدعوة رسميا باسم رئيس المنظمة وعضوي الشرف.
(٣) اللجنة التوجيهية، وتشمل الرئاسة واللجنة الاستشارية وأعضاء آخرين، وتتولى إدارة المنظمة ولقاءاتها، وتعتبر هي السلطة العليا حسبما ورد في نشرة أرسلتها سكرتارية المنظمة إلى الكاتب ماركوس كلوكنر، صاحب كتاب 0نخب السيطرة وحلقات النخب9 الصادر عام ٢٠٠٧م.
(٤) الأعضاء الآخرون، وهؤلاء لا تذكر أسماؤهم ولا يذكر عددهم، والأرجح أنه يتراوح بين المئات والألوف.
ممارسة الحكم الخفي
يمكن العودة بوصم المنظمة أنها حكومة العالم الخفية إلى ما أصبح معروفا عن مؤتمرها الأول، وشمل تحديد الموقف من الاتحاد السوفييتي والشيوعية، ومستقبل المستعمرات الأوروبية، وحركة الاندماج الأوروبي، ومناقشة تشكيل مجموعة الدفاع الأوروبية (منظمة عسكرية فقدت مفعولها لاحقا في ظل حلف شمال الأطلسي).
أما الأسلوب فيمكن استقراؤه عبر ما طرحه ريتينجر نفسه من شروط المشاركة، أن يكون المدعو من (الشخصيات ذات النفوذ، التي تحظى بالاحترام عموما، ولديها ما يكفي من المعرفة بالمجتمعات ومن الخبرة العملية، والقادرة على استخدام نفوذها في الدوائر الوطنية والعالمية لتحقيق أهداف المنظمة) بالإضافة إلى (مستوى عال من الصراحة وعدم تمثيل اقتناعات وطنية أو أحكام مسبقة، والمشاركة في تبني القيم الأخلاقية والثقافية الغربية).
ومن المؤشرات الأقوى دلالة على هذا الصعيد، ما ذكره العضو السابق في اللجنة التوجيهية، جورج ماك جي، لمؤلف كتاب عن سيرة حياة الأمير بيرنهارد: (بإمكاني القول إن معاهدة روما التي أدت إلى تأسيس الرابطة الأوربية المشتركة، ولدت في هذه المؤتمرات)، وهي الرابطة التي أصبحت معروفة في هذه الأثناء باسم الاتحاد الأوروبي.
ومن المؤشرات أيضا أن المشاركين في المؤتمر يتلقون في ختامه تحليلا لمحتواه مع التأكيد أن عليهم العمل لتحقيق ما فيه من استراتيجيات سياسية واقتصادية وغيرها، في مواطنهم، وليس هذا أمرا بسيطا بمعيار وزن المشاركين وقدراتهم، ومثال على ذلك رؤساء المنظمة وكانوا على التتالي٬ الأمير بيرنهارد الهولندي، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق دوجلاس هيوم، والرئيس الألماني الأسبق فالتر شيل، ورئيس مصرف ووربورج البارون إيريك رول، والأمين العام الأسبق للحلف بيتر كارينجتون، وأحد أبرز رجال السياسة والمال في بلجيكا إيتيينه ديفجنون.
على هذه الخلفية يرفض المحرر الإعلامي ماركوس كينابيل، وهو من مؤسسي الإعلام البديل غياب التوجيه السياسي في نشأة منظمة بيلدربيرج، ويستشهد بقول الرئيس الأمريكي الأسبق روزفلت (لا توجد مصادفة من وراء حدث سياسي، فعندما يقع يمكن الجزم بأنه وقع هكذا وفق ما خطط له).
ويربط كينابل -ككثير من الناقدين سواه- بين مشاركة شخصيات بعينها في مؤتمرات بيلدربيرج للمرة الأولى غالبا، واستلامها مناصب حساسة بعد ذلك بفترة وجيزة، كرئيس الاتحاد الأوروبي فان رومبوي عام ٢٠٠٩م، ورئاسة تسوليك للمصرف المالي العالمي عام ٢٠٠٧م، وكذلك كبار المسؤولين في الاتحاد الأوروبي باروسو وتريخيه وبرودي.. ويمكن تعداد المزيد ممن استلموا مناصب عليا عسكرية وسياسية ومالية بعد فترات وجيزة من حضور مؤتمرات بيلدربيرج للمرة الأولى.
ولكن ربط التوقيت الزمني يكفي للتكهنات وترجيحها، ولا يكفي دليلا على أن المنظمة حكومة خفية، على الأقل حسب التصورات السائدة عن كلمة حكومة، ومن رافضي التكهنات تيري ميسان، من موقع فولتيير الفرنسي، فيورد ما يراه حججا موضوعية لنقض ما يعتبره وليد فكر المؤامرة أنها منظمة تصنع الملوك، ويقول إنها مجرد “لوبي” يدعم حلف شمال الأطلسي وموقعه المهيمن عالميا.
والسؤال: أليست النتيجة واحدة سواء وصف هذا التجمع الضخم من إمكانات النفوذ واستخدامها، بأنه “لوبي” أو وصف بأنه “حكومة العالم الخفية”؟
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب