بيت المقدس والأرض المباركة

التركيز على المقدسات واجب دون إغفال الثوابت

رأي

لا شك أن تحرير أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم هو في المقدمة من مسارات قضية فلسطين، ولكن لا نغفل عن سواها في إطار القضية الكبرى. فالتركيز واجب على مدينة بيت المقدس وعلى المسجد الأقصى المبارك فيها بمساجده ومدارسه ومنشآته وأروقته وباحاته وقبابه، دون إغفال ثوابت أساسية أخرى في القضية المصيرية. حتى إن افترضنا صدور إعلان ما يتضمن إعادة بعض الحقوق، فهل يمحو ذلك سواها من ذاكرتنا البشرية، وهمساتنا الأدبية، ومصطلحاتنا الفكرية، ومن خرائط الجغرافيا وسجلات التاريخ، ومن مناهج تدريس الأجيال المقبلة وتوعيتها.

كلا، ليست قضية فلسطين قضية بيت المقدس فقط، أو المسجد الأقصى المبارك فحسب، وليست قضية حدود نكبة ١٩٤٨الأولى، أو حدود النكبة الثانية عام ١٩٦٧م، ولا يستوي منطقا ولا واقعا أن يكون الثمن هو الاستغناء عن جزء آخر من الحقوق المشروعة، ومنها جزء من الأرض، وإن قيل إن هذا ما تتيحه موازين القوة الآن، فهذا منطق شرعة الغاب وينتهك باحتلال فلسطين دعائم المشروعية الدولية وأسسها، كمبدأ بطلان اغتصاب أرض بالقوة.

ومن بين الأساليب المتبعة للتضليل ادعاء وضع قضية بيت المقدس في ملف مرحلة تالية وفق مسيرة أوسلو وكأن مسيرة أوسلو ليست باطلة من الأساس.

إن الصورة التاريخية الثابتة هي: النكبة نكبة واحدة كبرى وبيت المقدس جزء مركزي منها، لا ينفصل عن الأجزاء الأخرى من النكبة.

ومن عناصر القضية المصيرية:

١- قضية المشرّدين.. وهي قضية كل مشرد وذريته، وليست قضية فريق دون فريق.

٢- قضية الحدود.. وهي قضية الأرض التاريخية وليست مسألة حدود نكبة ٤٨ أو نكبة ٦٧.

٣- قضية السيادة.. وهي قضية سيادة شعب مستعمر ومشرد تتحقق عندما تشمل كامل أرضه وأجوائها ومياهها وباطنها وظاهرها، وتكون سيادة كاملة غير منقوصة.

٤- قضية العودة.. وهي قضية عودة المشردين إلى الوطن وعودة الوطن إلى أهله الشرعيين.

ومعظم ما شهدت القضية من مناورات متتالية حول “القدس والأقصى” تخصيصا، بات يُستخدم في التغطية على بطلان ما يقال بشأن أجزاء أخرى من القضية. هذا تفريط باطل.  

إذا كانت السياسة فنّ الممكن فليس ما يُصنع في قضية فلسطين هو الممكن، بمقياس ما نملك من إمكانات هذا الجيل وأجيال مقبلة في أرض فلسطين وما حولها.

إذا كانت السياسة فنّ التعامل مع الواقع فلا يجوز التعامل مع الواقع بلغة التسليم لكل واقع جديد يصنعه سوانا ولغة الإحجام عن صنع واقعنا ومستقبلنا على أرضنا بأنفسنا ووفق ثوابتنا وأهدافنا المشروعة.

إذا كانت السياسة فن التفاوض على حلول وسطية، فقد بدأت مسيرة التصفية بكاملها على طريق التخلي عن مادة المفاوضات قبل الشروع بها، مرة بعد مرة.  

قضية فلسطين مصيرية لا تُمسخ لتحشر في قالب سياسي محض، ولئن تعاملت السياسة وأهلها على هذا النحو، فلا ينبغي اتباعها في ذاكرتنا التاريخية وتطلعاتنا المستقبلية، وفي حياتنا الفكرية والثقافية ومناهجنا التربيوية وإبداعاتنا الفنية والأدبية، مع التأكيد أن القدس كالأرض المباركة بكاملها، إنما تضيع عند تحويل قضية فلسطين في أنفسنا وفي حياتنا اليومية إلى مجرّد مشكلة أو مجرد معركة سياسية.

هذه رؤية لما يجري أنه يتناقض من الجذور، مع حقنا العقدي الديني، وحقنا البشري التاريخي وحقنا الإنساني الحضاري، ويتناقض مع القانون الدولي العام، وفق نصوص مبادئه الثابتة التي لا تقبل التزوير بقرارات “هيئة تنفيذية” باتت تقوم على موازين القوى وتخالف القانون الدولي العام، مثل مجلس الأمن الدولي، فقراراته لا تكتسب المشروعية إلا بمقدار ما تتفق مع تلك النصوص، كحق تقرير المصير وبطلان اغتصاب الأراضي بالقوة.

إنّ بيت المقدس لا يفرض علينا أن نتابع الآن ما الذي يُصنع به على موائد مفاوضات محتملة لا تكافؤ فيها، ولا مشروعية من ورائها، وهل ستسفر تلك المفاوضات عن سيادة شكلية أم فعلية، على هذا الحي أو ذاك، وهذا الموضع أو ذاك من المدينة المغتصبة، بل يفرض العمل على خطين متوازيين:

(١) خط الحفاظ على أصالة قضية فلسطين ومكانتها المشروعة، في أعماق القلوب والعقول، جيلا بعد جيل، وفي كل إنتاج فكري وأدبي وفني وعلمي بحثي، ينقل أمانة القضية من جيل إلى جيل

(٢) وخط الإعداد عبر أسباب القوة بمختلف أشكالها، فما اغتُصب بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة، ولن يُرهب الغاصبين ويوقف توسعهم، إلا ما نعدّ من القوة.

وأستودعكم الله مع أطيب السلام من نبيل شبيب

 

الثوابتالقدسالمسجد الأقصى المباركبيت المقدس