رؤية تحليلية
السياسة في تركيا مرتبطة بموازين التمويل الاستثماري وموازين الإنتاج الذي تتجسد قيمته صعودا وهبوطا في وسطي دخل فردي وشعبي، هذا عندما ننظر في تعرض الوضع الاقتصادي لمخاطر متشعبة تتجاوز حدود الهبوط المتتابع لقيمة الليرة التركية. إن النتائج على هذا الصعيد هي ما يمكن أن يؤثر على السياسات التركية ونتائجها داخليا وخارجيا، بغض النظر عن وجود ضغوط خارجية أو وجود أخطاء داخلية، أو وجود مزيج من هذا وذاك في وقت واحد.
الاقتصاد في العجلة السياسية
غالبية القيادات العليا لحزب العدالة والتنمية ترى السبب الأهم بصدد الوضع المالي والاقتصادي هو ما تصنعه ضغوط خارجية موجهة (أو بالتعبير الشائع: المؤامرة) تستهدف الاقتصاد التركي الناهض، لا سيما بسبب خلفيته القيمية التي ترافقه منذ عقدين من الزمن على الأقل، وتنذر بنقلة نوعية مع حلول عام ٢٠٢٣م والانتخابات المقررة فيه.
وغالبية الزعامات المعارضة المختلفة فيما بينها، تميل إلى خط مشترك في صفوفها وصفوف من هم أقرب إليها من الخبراء، عند الحديث عن تدهور الوضع الاقتصادي، إذ يسلطون الأنظار على أخطاء ترتكبها القيادات العليا في حزب العدالة والتنمية، لا سيما الرئيس التركي رجب طيب إردوجان.
من الناحية ا،لموضوعية يكمن الخلاف بين الطرفين من قبل الأخذ بالنظام الرئاسي ومن بعد، في وجهتي نظر متقابلتين بشأن توجيه السياسة الاقتصادية، بين:
١- تبني تحرير السياسة النقدية، بمعنى إطلاق أيدي أصحاب رؤوس الأموال للتنافس على توجيه مجرى الأموال في الشرايين النقدية والإنتاجية للبلاد، ومن ذلك إجراء “رفع الفوائد الربوية الأساسية” في المصرف المركزي، لتنشيط حركة التوفير وحركة الاستثمارات.
٢- إعطاء الأهمية الأكبر لاحتياجات الفئات الأضعف اقتصاديا واجتماعيا ومن ذلك إجراء “تخفيض الفوائد الربوية الأساسية” لتنشيط الاستهلاك وبالتالي الإنتاج، وذلك عبر الحد من تضخم الأسعار الاستهلاكية.
نتائج مبدئية
خلال ثلاث سنوات مضت هبطت العملة التركية بنسبة تناهز ٤٥ في المائة من قيمتها، والأخطر من ذلك هبوط وسطي الدخل الفردي، وارتفاع نسبة التضخم، فبدأت المعارضة تذكّر بالأوضاع المالية والمعيشية في سنوات “الأزمة” ابتداء من أواخر القرن الميلادي العشرين، والتي أسفرت عن تغيير سياسي جذري، عبر الفوز الانتخابي الحاسم بنسبة ٤٦ في المائة من أصوات الناخين لصالح حزب العدالة والتنمية عام ٢٠٠٢م.
لا يمكن تشبيه الأزمة الحالية بما كان آنذاك، ولكن هبطت نسبة التأييد الشعبي لحزب العدالة والتنمية في هذه الأثناء إلى أقل من ٣٠ في المائة، حسب استطلاعات الرأي، ومن أسباب ذلك أن جيل الشباب لم يعايش ما كان حتى أواخر القرن الميلادي الماضي، فلا يملك أسباب المقارنة المباشرة لتقدير قيمة التقدم الاقتصادي والمعيشي حديثا. والسؤال المطروح سياسيا في الوقت الحاضر: هل يتمكن حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوجان من تجاوز الصعوبات، لمواصلة مسلسل الفوز بغالبية الأصوات، لا سيما في عام ٢٠٢٣م، الذي يسجل مناسبة مرور ١٠٠ عام على قيام تركيا الحديثة وفق معاهدة لوزان وعلى أنقاض دولة الخلافة العثمانية؟
تركيا والمنظور الإقليمي
المنطلق الطبيعي والواقعي في السياسات الخارجية هو إعطاء الأولوية لتحقيق المصالح الذاتية، وهذا لا يمنع “تمنّي” عدم ارتكاب انتهاكات صارخة لموازين القيم والمبادئ، ومع مراعاة هذا المنطلق ينبغي بالمنظور الإقليمي طرح السؤال عن الانعكاسات المحتملة لسياسات تركيا في قضايا تدور حول ثلاثة محاور:
١- التعامل مع الثورات الشعبية ومع التحرك المضاد لها، دوليا وإقليميا، وهذا ما يشمل سورية وليبيا وتونس ويمتد إلى العراق ولبنان ويصل إلى الجزائر والسودان.
٢- التعامل مع التحالفات المتقلبة إقليميا، مما يمس العلاقات مع إيران ودول الخليج العربية ومصر، مع خلفية تلك التحالفات دوليا، مما يمس العلاقات مع روسيا والصين الشعبية علاوة على شطري حلف شمال الأطلسي، الأمريكي والأوروبي.
٣- التعامل مع قضية فلسطين، وبالتالي مع صراع الهيمنة الإقليمية بين المشروعين الصهيوني والإيراني، بأبعادهما الدينية والطائفية والسياسية الدولية، وقابلية البحث عن قطب جديد خارج هذين المشروعين.
ونعلم أنه لا ثبات للسياسات الرسمية لأي دولة من الدول المعاصرة إلا في حدود الرؤية الشاملة لتحقيق ما تراه لنفسها من مصالح وأهداف. أما الحديث عن منظومة قيم ومبادئ فما لم يكن له موقع تشريعي أو دستوري ملزم، يبقى حديث تمنيات، وفي أفضل الأحوال حديث تقديرات عامة، بما يعني قدرا من الالتزام ينمو ويضمر بمقارنة المراحل الزمنية والظروف المتعاقبة أو المقارنة بين دولة وأخرى.
مع تقدير ما سبق نرصد منذ منتصف سنة ٢٠٢١م على الأقل ظهور مؤشرات سلبية مبدئيا، ناجمة عن خطوات سياسية تركية كان يستبعد وقوعَها كثير من المتفائلين برؤية أخرى، ومن تلك الخطوات على سبيل المثال دون الحصر:
١- في قضية سورية لم تعد لهجة صياغة الردود على تكرار الاعتداءات من جانب القوات الروسية والأسدية تخصيصا كما كانت عليه من قبل، وهذا واضح بما شمل عدم تنفيذ التهديدات الموجهة ردا على عمليات “إرهابية” من جانب الفصائل الانفصالية الكردية شمال سورية، المصنفة في تركيا كفصائل إرهابية.
٢- في ليبيا وتونس (وفي مجموع الشمال الإفريقي) بدأ يظهر استعداد تركي أكبر للتفاهم على “حلول وسطية” -تشمل قضايا أخرى- مع أطراف كانت مرفوضة بشدة من قبل، كما هو الحال مع مصر تحت السلطة العسكرية بزعامة عبد الفتاح السيسي مثلا.
٣- في الخطوات التالية وصل الانفتاح السياسي تجاه دول الخليج العربية إلى مستوى التفاهم الديبلوماسي والاقتصادي والمالي مع دولة الإمارات التي كان الخطاب السياسي في تركيا يعتبرها المصدر الأول والأخطر للتحرك الإقليمي المضاد للثورات الشعبية بما في ذلك ما يوصف بتعويم المتسلط الاستبدادي الأسدي، ولترسيخ مسارات التطبيع في نطاق المشروع الصهيوني – الغربي إلى جانب العلاقات الوطيدة مع الطرف الإيراني.
٤- مع إيران التي سبق الرهان على ازدياد حدة الاختلاف معها لصالح تفاهم أكبر مع روسيا، تجدد التواصل بشكل ملحوظ وكأنه يسابق السياسة الأمريكية في عهد جو بايدن لإعادة الاعتبار إلى ما سبق عقده مع إيران في عهد باراك أوباما.
تساؤل مستقبلي
لا يمنع سرد الأمثلة السابقة من تأكيد أن الأبواب في تركيا بقيت مفتوحة في اتجاه متابعة السياسات السابقة، أي كما ظهرت عموما قبل استفحال نتائج الاستهداف الأمريكي والإقليمي لبنية الاقتصاد المالية في تركيا. إنما المؤكد أن تحوّل التوجهات السياسية العامة لا يقع بين ليلة وضحاها، فيمكن أن تمضي الأمور تدريجيا في الاتجاه الجديد، لا سيما وأن التغيير لا يجري غالبا مع عكس البوصلة دفعة واحدة بما يعادل مائة وثمانين درجة.
إنما أهمية الاستمرار أو التراجع كبيرة بالنسبة إلى تركيا، فالطريق التي بدأها حزب العدالة والتنمية قبل زهاء عشرين عاما، توشك أن تحقق أغراضها في بلوغ مكانة إقليمية ودولية عميقة التأثير على مسار التغييرات الحضارية والسياسية عالميا. وهذا حمل ثقيل، فمثل هذا التطور لا يتحقق عادة من خلال دولة واحدة، ولا من خلال الإنجازات السياسية والاقتصادية في حياة جيل واحد، إنما يمكن أن تتسارع خطاه إذا وجد تحالفات إقليمية تحمله، وهذا ما سعت تركيا له بادئة بالعمل على بناء شبكة علاقات محكمة مع المنطقة العربية قبل الثورات الشعبية، ولم يكن التجاوب الرسمي العربي على المستوى المطلوب، وربما يتم استدراك ذلك الآن، ولكن الحديث عن ذلك يفتقر واقعيا إلى رؤية مؤشرات وأدلة جادة، وليس هذا ما تكشف عنه النظرة الاستشرافية إلى الآفاق القريبة حاليا.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب