انطباعات شخصية من السودان

مشاركة في موتمر رسمي شعبي في الخرطوم

ذاكرة سياسية

 

خلاف في الصباح وقهوة مشتركة في المساء

١٥ معتقلا في متر مربع واحد!!

تعذيب غريب

كبت المعارضة الحزبية

صوت الحكومة وصوت الشارع

مع طالبات جامعيات في السودان

بمناسبة مرور خمسة أعوام على ثورة الإنقاذ (الانقلاب العسكري سنة ١٩٨٩م في السودان)، بزعامة عمر البشير وحسن الترابي، انعقد في الخرطوم مؤتمر احتفالي، تلقيت دعوة للحضور والمشاركة بكلمة فيه عن أوضاع البوسنة والهرسك المستهدفة بحرب البلقان، وكانت حصيلة الزيارة لبضعة أيام انطباعات شخصية ذات محور سياسي عن وضع السودان تحت سلطة “الإنقاذ”، أدرجها هنا ضمن انطباعات سابقة.   

 

خلاف في الصباح وقهوة مشتركة في المساء

سبق أن تعرفتُ في مطالع فترة إقامتي طالبا في ألمانيا على أخ صديق ودود هو عبد الرحمن سعيد من السودان، وقد أصبح في حقبة لاحقة سفيرا لبلده في ألمانيا، ومن خلال صحبته لسنوات تعرفت على كثير من طبائع أهلنا في السودان وخصالهم، كما تعرفت على كثير من الجوانب حول واقع السودان عبر أحاديث وحوارات سياسية ودية ومطولة، وبقي في النفس من الانطباعات ما عززته الأعوام التالية، وفي مقدمتها ارتفاع نسبة الوعي السياسي بين عامة أهل السودان، ومنها أنهم يعيشون حقيقة لا كلاما ما يعنيه المثل المعروف أن الخلاف لا يفسد للودّ قضية، فكان ما نسمع به ونتابعه من خلاف سياسي شديد في النهار، لا يمنع المختلفين من الجلوس معا لتناول فنجان من القهوة أو كأس من العصير في المساء.

١٥معتقلا في متر مربع واحد!!

كنت أثق ثقة كبيرة بمضامين أنشطة منظمة العفو الدولية، فكثير منها يساهم في  التعريف بمظالم تجري بعيدا عن العيون وعدسات التصوير، وهذا مما جعلني أتابع ما نشرته من تقارير حول السودان في عهد الإنقاذ، مقابل ما أرصده من انعدام مصداقية حملة غربية كبيرة في السنوات الأولى بعد الانقلاب، وانتشرت تلك الحملة في وسائل الإعلام العربية أيضا؛ ثم صدر تقرير رسمي وشامل بصيغة كتاب عن منظمة العفو الدولية، فأردت بحكم المهنة الإعلامية ونتيجة الرغبة الذاتية أن أتعرف بتركيز أكبر على التقرير الصادر بعدة لغات، فحضرت مؤتمرا صحفيا عقدته المنظمة للتعريف بالنسخة الألمانية للكتاب ومحتواه، وكان فيه الكثير، وتبين لي لاحقا أن المصدر الرئيسي هم ممثلو أحزاب المعارضة خارج الحدود لا سيما في لندن. وحرصا من المنظمة على تعزيز محتويات الكتاب بشهادة حية، أتت بشخص قيل إنه كان معتقلا وأفرج عنه، فجعل يتحدث عن فترة سجنه وما تعرض له، فذكر الكثير، ومن ذلك أنه وُضع مع ١٤ معتقلا آخرين في زنزانة طولها متر وعرضها متر، فحاولت أن أتمثل المشهد، وكان يعني أن المعتقلين كانوا من الأقزام بطول ١٠-١٥ سنتيمترا، أو كانوا مطويّين ومكدّسين فوق بعضهم بعضا، وفقد كلام المعتقل الشاهد، كما فقد الكتاب لهذا السبب وسواه، المصداقية لدي.

 

تعذيب غريب

لا أؤيد السلطات السودانية في أي وقت من الأوقات، وتحت أي عنوان من العناوين، وبأي ذريعة من الذرائع، عندما تمارس كبتا للمعارضة السياسية في السودان نفسه، ولا أجد ما يستدعي تبرئتها أو إدانتها بذلك، فكثير مما يعلن عنه بهذا الصدد لا يمكن التثبت من حقيقته إلا بصعوبة، وأثناء مشاركتي في المؤتمر الاحتفالي خمسة أعوام من ثورة انقلاب الإنقاذ، كان مما لفت نظري في أروقة مقر المؤتمر، وجود أفراد ينتسبون إلى حزب الأمة، أكبر أحزاب المعارضة، إذ كان يرسل بهم إلى داخل المؤتمر الحكومي، فلا يمنعهم أحد من الالتقاء بالمدعوين، واحدا بعد الآخر، ليحدثوهم عن رؤى المعارضة وواقعها، بل وليصحبوا بعضهم إلى لقاء مباشر مع رئيس الحزب الصادق المهدي (رحمه الله، وقد توفي لاحقا في ٢٦ / ١١ / ٢٠٢٠م) وكان مما ذكره لي عضو الحزب ونحن في الطريق أنه كان معتقلا، فقلت: ولكن أنت معي وتتحدث إلي، قال إنه أفرج عنه بعد ثلاثة شهور من التعذيب، قلت: حمدا لله، ففي بعض البلدان يغيب المعارض في السجون عشرات السنين ولا يجرؤ أهله عن مجرد السؤال عن مصيره؛ وعند الإلحاح عليه أن يحدثني عن أشد صنوف التعذيب التي تعرض لها، قال إنه كان يوضع داخل سجادة (بساط) تطوى عليه، ثم تفتح بقوة فيتدحرج على الأرض! ولا أدري هل كان صادقا أم لا، إنما كانت تلوح لي صور أخرى بشأن ما تعنيه كلمة التعذيب في معتقلات عربية أخرى، في سورية مثلا!

 

كبت المعارضة الحزبية

حظيت بأن أكون أحد من اصطحبهم ذلك الشاب على انفراد إلى بيت زعيمه الحزبي الصادق المهدي، وأشهد على نفسي أنني كنت أقرا له وأعجب ببعض ما يكتب، وإن وجدت فيه تعقيدا في التفكير والتعبير، ومكثت إلى جانبه في بيته زهاء ثلاث ساعات، وهو يحدثني عن فكره السياسي ورؤاه بإسهاب كبير، ويهديني بعض كتبه ويشرح ما فيها، وأشهد على نفسي مرة ثانية، أن القليل مما كان يقنعني عبر كتاباته الصحفية من قبل تبخّر في تلك الجلسة الخاصة، فما سمعت منه شيئا مقنعا عن مظالم السلطة، علما بأن مجرد منع المعارضة من التعبير عما تريد هو في صلب اقتناعاتي ظلم سياسي مرفوض، وما استطعت أن أجد فيما ساقه من مسوّغات أمرا واحدا يجعلني أبدل اقتناعي لأقبل بالتعاون مع الدول الغربية بالصورة التي كان يشرحها، وحمدت الله أنه من المعارضة!

على أن مما لفت نظري كثيرا، أن ما سميته بيت ذلك الزعيم المعارض، كان قصرا منيفا، تحيط به حدائق غناء، وسط أرض السودان الفقير نسبيا، وكان لا بد لي أن أقارن بين ذلك القصر الذي يقيم فيه المعارض السياسي وبين منزل غلب السواد على جداره الخارجي، وتكسر بعض ألواح نوافذه الزجاجية، ولا يمكن التمييز بينه وبين المنازل حوله، وقد قال لي صاحب سيارة الأجرة عند مرورنا أمام ذلك المنزل، إنه منزل الوزير الفلاني من الحكومة السودانية!

كما لفت نظري أن جميع سيارات المرسيدس التي كانت تابعة للحكومة فيأتي بها أعضاؤها بمن فيهم رئيسهم البشير، كما يستخدم بعضها في نقل الزوار الضيوف على المؤتمر، جميعها كان عمره خمس سنوات على الأقل، أي كعمر ثورة انقلاب الإنقاذ آنذاك، فلم تُبَدل بأحدث منها، أما السيارة الوحيدة الفخمة الجديدة، أي من طراز ١٩٩٤م يومذاك، فلم أرها في شوارع السودان، ولكن كانت هي السيارة التي نقلتني كضيف، من قاعة المؤتمر إلى قصر الزعيم الحزبي المعارض، وكانت إحدى سياراته!

 

صوت الحكومة وصوت الشارع

كثيرا ما غادرت قاعة المؤتمر منفردا، ونزلت أمشي في شوارع الخرطوم، أو أنتقل بسيارة أجرة إلى بعض الأمكنة، وكنت حريصا على أن أسمع أحاديث العامة في الشارع وفي المقهى وفي الحانوت وفي سيارة الأجرة، وقد سمعت في جلسات خاصة من جانب بعض المسؤولين قصصا كنت أصنفها في باب الدعاية السياسية، منها مثلا أن أحد طرق السيارات بين العاصمة وساحل البحر الأحمر بدأ بناؤه بقرض من صندوق النقد الدولي، ولم يتم إنجاز عشرين في المائة منه، إلا وواجهت الحكومة فجأة انقطاع دعم الصندوق تحت ضغوط غربية، ولم تجد من يعوض ذلك من صناديق الدعم العربية، فأعلنت الحكومة لشعبها عن المشكلة، واقترحت أن يقوم متطوعون في عطلة الصيف المقبلة باستكمال عملية بناء الطريق، وهذا ما حدث فعلا فقد كانت الاستجابة الشعبية كبيرة، وسمعت تلك القصة بتفاصيلها أثناء إحدى جولاتي الخاصة في شوراع الخرطوم.

وسمعت من بعض المسؤولين أيضا قولهم إن الدول النفطية الخليجية قطعت إمداد السودان بما يحتاج إليه من النفط بعد ثورة انقلاب الإنقاذ، ولم يبقَ له من مصدر سوى ليبيا، وكان تعاون القذافي في البداية مع السودان ردا على إلغاء اتفاق عسكري بينها وبين حكومة السودان السابقة للانقلاب، وفجأة قطعت حكومة القذافي إرسال النفط دون إنذار مسبق، فتوجهت الحكومة السودانية إلى الشعب طالبة الصبر على انقطاع الوقود في البلاد لعدة أسابيع، ولم يكن قد اكتُشف وجود النفط في السودان بعد، فكان التجاوب كبيرا، ولم تقع اضطرابات أو احتجاجات تذكر، وأمكن تجاوز الأزمة، وسمعت القصة نفسها بتفاصيلها أثناء إحدى جولاتي الخاصة في الخرطوم أيضا. وتلكما قصتان من بين قصص أخرى مشابهة.

 

مع طالبات جامعيات في السودان

لم أكن أثناء زيارة السودان أرصد إعلاما بمعنى الكلمة، فالتلفاز والإذاعة والصحف على جانب كبير من الضعف، والإعلام يحتاج إلى تمويل رسمي أو عبر الإعلانات التجارية، وكلاهما لم يكن يتوافر للسودان، وكنت أحسب أن أهل السودان مقطوعون عن العالم الخارجي، لا سيما وأن موجة الفضائيات، النافعة وغيرها، لم تكن قد انطلقت في البلدان العربية بعد، ودعيت أثناء وجودي في الخرطوم إلى إلقاء محاضرة على طالبات جامعة أم درمان، ولم يتحقق ذلك -للأسف- بسبب وصولي متأخرا عن الموعد، فاستقبلتني بضع طالبات من المسؤولات عن اتحاد الطالبات السوداني ساعة من الزمن في لقاء ودي دار الحديث فيه، بحكم قدومي من ألمانيا، عن الغرب وأوضاعه، وفوجئت إلى حد كبير بحجم المعلومات التفصيلية المتوافرة لديهن، ودرجة الوعي السياسي الكامن في نظراتهن التحليلية للأحداث، وقدرتهن الفائقة على ربط الأسباب بالنتائج، وجميع ذلك مما يتناقض ليس مع حال الإعلام في السودان فقط ومع مزاعم واتهامات عن وضع المرأة في ظل الإسلام فحسب، بل يتناقض أيضا مع تلك الحفر المليئة بالماء التي كان علي أن أتجاوزها على باب الجامعة في ذلك اللقاء.

وأدركت يومذاك ما يعنيه صديقي القديم عبد الرحمن سعيد رحمه الله، عندما كان يحدثني عن مستوى الوعي السياسي، وليس الوعي العام فقط، لدى شعب السودان.

وأستودعكم الله وأستودعه السودان وأهله، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

الانقلاباتالسودانذاكرة سياسية
Comments (0)
Add Comment