انظر أيضا:
كتاب للتحميل: تركيا في عهد العدالة والتنمية
لم ينتصر رجب طيب إردوجان بين ليلة وضحاها بل انتصر بالمضي مع شعب تركيا على الطريق الذي بدأه عدنان مندريس وبلغ مداه عام ١٩٥٠م وقد قتله الاستبداد العسكري إعداما يوم ١٧ / ٩ / ١٩٦٠م بعد الانقلاب العسكري يوم ٢٧ / ٥ / ١٩٦٠م.
كما لا ينبغي شخصنة المسار والتركيز فقط على رجب طيب إردوجان في الانتخابات؛ وهو زعيم متميز دون ريب، إنما يرتبط فوزه برفاق دربه كما يرتبط بما ينبثق عن مقدمات تاريخية، مثل المتابعة الحساسة للإرادة الشعبية على خطى تورجوت أوزال، الذي كان أول من أدخل النقلة العملية من مرحلة علمانية متشددة مطلقة إلى مرحلة تعايش توجهات فكرية إسلامية معها، وهذا ما اقترن أواخر عام ١٩٨٣م برئاسته للحكومة مع حزب الوطن الأم أثناء سيطرة قائد الانقلاب العسكري كنعان إيفرين على منصب رئاسة الجمهورية، وقد تولى أوزال رئاسة الجمهورية عام ١٩٨٩م، وحتى الآن لا يمكن الجزم هل كانت وفاته يوم ١٧ / ٤ /١٩٩٣م نتيجة أزمة قلبية أم نتيجة اغتيال بالسم.
كذلك لا يخفى على من تابع التاريخ السياسي لتركيا ما مهد له نجم الدين أربكان من خلال جهره بالتوجهات الإسلامية السياسية، مع تأسيس حزب النظام ثم حزب السلامة قبل حزب الرفاه الذي أدى فوزه إلى ائتلاف حكومي مع حزب الشعب الجمهوري؛ آنذاك بدأ تليين العقدة العلمانية الحزبية وتلا ذلك في عهد إردوجان تليين العقدة العلمانية العسكرية. وقد وصل أربكان إلى رئاسة الحكومة عام ١٩٩٥م فكان ذلك بمثابة تعبيد الطريق أمام حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوجان والوصول إلى السلطة عام ٢٠٠٢م. وبدأ ازدهار عهد جديد من أبرز معالمه إنهاء السيطرة العسكرية مع إخفاق آخر محاولة انقلابية في ١٥ / ٧ / ٢٠١٦م.
كان الطريق طويلا إذن وكان الفوز عبر تراكم عمل بعد آخر، على امتداد عقود عديدة سبقت انتخابات عام ٢٠٢٣م، والفوز الجديد لحزب العدالة والتنمية بزعامة إردوجان يضاعف التساؤلات عن مستقبل التموضع التركي في الخارطة الدولية والإقليمية، والقضية أكبر شأنا وأعمق حصيلة من مناوشات ديبلوماسية متزايدة مع الغرب، مقابل تطوير متسارع للعلاقات التركية مع روسيا وإيران.
إن تموضع تركيا عالميا مسألة تركية وجودية من الأصل، وتجددت أهميتها فور سقوط المعسكر الشيوعي ونهاية الحرب الباردة، فمنذ ذلك الحين لم يعد موقع تركيا “الأطلسي” يصلح للاستمرار كما كان.
وكانت المحاولة الأولى للتجديد في عهد سليمان ديميريل، ولكن من خلال رؤية “خدمية أطلسية جديدة” فيما عرف بالدوائر الخمس، وأخفقت هذه المحاولة، وأخفقت محاولة أخرى في عهد نجم الدين أربكان تميزت برؤية مضادة أو “إسلامية بديلة” بالدعوة لتأسيس “مجموعة الثمانية الإسلامية”، وكان الإخفاق متوقعا، إذ لم يكن يوجد نسيج “اقتصادي وأمني وسياسي” يربط بين دول مختلفة عن بعضها اختلافا جذريا، وهي تركيا ومصر وإيران والسعودية وماليزيا ونيجيريا وإندونيسيا وبنجلادش، وبقي المشروع مجرد هيكل تنظيمي ضخم دون مضمون فاعل.
إن عالم التكتلات الكبرى المعاصر لا يتسع لدولة تتحرك بسياسات لا تستخدم لغات التكتل والمحاور والتحالفات وما تنطوي عليه من تقاطعات وتناقضات وتوازنات على صعيد المصالح.
الجدير بالذكر أنه في هذا الإطار كان اندلاع الثورات الشعبية في الجوار العربي مؤثرا على السياسات الخارجية التركية في اتجاهين متناقضين:
الأول.. مخاطر سلبية للانزلاق في “سرعة التغيير الثوري” بديلا عن “سرعة بطيئة نسبيا” في التحولات الجارية تدريجيا على خارطة السياسات الخارجية التركية.
الثاني.. فرصة إيجابية لتوليد تكتل جديد على المستوى التركي-العربي
ولا ريب أن محاولة الجمع بين هذا وذاك لم تكن القرار الصائب، لا سيما وأنه لا يوجد قرار سياسي خارجي “مستقل تماما”، فالقرار التركي -كسواه- معرض لمفعول ما يقع من تطورات في الجوار، وهي متنوعة متقلبة وسريعة، وتأثيرها كبير لا سيما وأن العهد الحالي لحزب العدالة والتنمية أخذ بأسلوب التدرج، وموازنة المصالح، ومرحلية التغيير، وتقلب التحالفات الخارجية ومعها تقلب السياسات الخارجية أيضا، ولهذا ينبغي القول: ما زالت تركيا تعبر مرحلة تموضعها العالمي وما يزال الطريق أمامها طويلا بعد انتخابات ٢٠٢٣م.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب