انتخابات فاصلة بين ما قبلها وما بعدها، تلك التي تجري في تركيا يوم ١٤ / ٥ / ٢٠٢٣م، وهي الانتخابات النيابية والرئاسية الأولى المتزامنة مع بلوغ تركيا مائة عام من عمر الدولة الجمهورية، بعد الحرب العالمية الأولى وتأسيسها على أنقاض الدولة الإمبراطورية العثمانية، آخر صيغة من صيغ الخلافة الإسلامية. ولكن الانتخابات تتزامن أيضا مع مرور شوط كبير من استعادة تركيا لهويتها التاريخية، فكرا وثقافة وتوجها سياسيا إسلاميا، في عالم مليء بقوى مضادة لتركيا ونهجها، بمختلف الوسائل العلنية والخفية.
كما أنها انتخابات فاصلة بين ما قبلها وما بعدها باعتبارها تمثل نقلة عددية للناخبين من جيل الشباب، ممن سيكون لأصواتهم دور حاسم في تحديد النتائج النهائية، فبغض النظر عن درجة ما يتمتعون به من ميزات، لا ينبغي إغفال أنهم لم يعايشوا بأنفسهم التردي الذي كان عنوانا لأوضاع تركيا في مختلف الميادين، قبل وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام ٢٠٠٢م.
كذلك تعتبر النتائج مؤشرا مباشرا على مدى اقتناع الناخبين بنجاح السياسات الاقتصادية والمالية الجريئة، وما تحقق بذلك في القطاعات الصناعية، لا سيما الدفاعية، فضلا عن الشروع حديثا في استخراج الغاز الطبيعي من البحر الأسود، واعتماد استغلال الطاقة النووية، مما قد يغطي عند الناخبين تأثرهم المعيشي بارتفاع نسبة التضخم إلى ٧٠ في المائة، وهي أعلى درجة بين الدول الأعضاء في مجموعة العشرين، وكذلك تأثرهم المعيشي بهبوط قيمة صرف الليرة التركية تجاه الدولار الأمريكي.
من المرجح في هذه الانتخابات نجاح إردوجان في الحصول على مقعد رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة لخمسة أعوام قادمة، ومما يرفع احتمالات فوزه ضعف أوضاع منافسيه، بمن فيهم المرشح باسم تحالف أحزاب “الطاولة السداسية”، أي رئيس حزب الشعب الجمهوري كمال كليجدار أوغلو. ويسري ذلك أيضا على المقارنة بين تجانس حزب العدالة والتنمية واستقرار تحالفه مع حزب الوحدة القومي، وبين التناقض الكبير في توجهات تحالف الأحزاب المعارضة ابتداء بالعلمانية التي تتراجع حزبيا وشعبيا، انتهاء ببقايا إرث حزب الرفاه بزعامة أربكان قديما، وقد وصل إلى حزب السعادة، إنما انشق عنه فاتح أربكان (الابن) فأسس حزب “الرفاه مجددا” وأعلن تأييده لإردوجان رئيسا.
ولئن كانت التوقعات الحالية ترجح استمرار المسيرة السياسية والاقتصادية في تركيا على نهج حزب العدالة والتنمية وبزعامة إردوجان، فمن المؤكد أن ذلك سيكون له تأثير معاكس خارج الحدود التركية، إقليميا ودوليا، فلا يخفى ما أصبح من تأثير للسياسات التركية على مسارات المواجهة والمنافسة والتحالفات الدولية، لا سيما تحت عنوان تعدد الأقطاب بعد ضعف دعائم الزعامة الانفرادية الأمريكية التي قامت منذ انهيار المعسكر الشيوعي الشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي خلال الحرب الباردة.
النجاح في الانتخابات متوقع بقدر تجاوب الناخبين مع نجاحات داخلية كان قد عبر عنها الدور الشعبي في مواجهة محاولة الانقلاب العسكري سنة ٢٠١٦م، يضاف إلى ذلك التجاوب مع حصيلة السياسات التركية في التعامل مع أزمات إقليمية ودولية كبرى، ومن عناوينها، كورونا، وأوكرانيا، ويسري ذلك أيضا على تعامل تركيا مع الصراعات الإقليمية شرقي البحر الأبيض المتوسط، والدور التركي في حسم حرب تحرير قره باخ لصالح أذربيجان، ناهيك عن احتضان تركيا معظم من توجه إليها مهاجرا بسبب التحركات الإقليمية والدولية المضادة للثورات الشعبية العربية.
قبل الانتخابات أخذت السياسات التركية الإقليمية منحى جديدا، انعكس في تجديد العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر، وهو ما يشمل قضيتي سورية وفلسطين، أي محرك الأحداث والتطورات القادمة.
ويفترض أن يدرك العاملون لتحرير الإرادة الشعبية والأرض الوطنية في هاتين القضيتين وسواهما، أن مطالبهم المشروعة لا تتحقق عبر بيانات التأييد أو الرفض، ومواقف التمجيد أو الإدانة، تجاه السياسة التركية أو سواها، بل المطلوب تطوير القدرات الذاتية للتأثير إلى أقصى درجة ممكنة، وبصورة متواصلة، على صناعة القرار السياسي إقليميا ودوليا، مع التمسك بموازين المصلحة المشروعة الذاتية.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب.