تحليل
مع كل حدث طبيعي من مستوى الكوارث، من زلازل وبراكين وأعاصير وفيضانات، تنتشر الأقاويل التي تعمد إلى ربط ما وقع بعقوبة ربانية، بحق المعتدين بحروبهم على الإنسان في بلادنا وسواها، وإن كان ضحايا الكارثة مسلمين في الدرجة الأولى، قيل إن ذلك عقاب للمسلمين الذين يتهاونون في مواجهة الظلم الخارجي والداخلي ونصرة المجاهدين والمظلومين، وهكذا، فخيال من يطرح التعليلات واسع مبدع، وربما مبتدع.
آيات ربانية وسلوك البشر
من مقولات الشماتة أو التحريض ما قد يصدر عن الإخلاص، ولكن لا يصدر عن علم ووعي بالضرورة، وغالبا ما يؤدي إلى نقيض مفعوله فيثير الإحساس بالصدمة والانزعاج مقابل مشاعر الأسى والحزن والألم، لا سيما أثناء مواكبة ما يقع من المآسي الفردية والجماعية، التي تشمل في كل ساعة المزيد من الأسر والأفراد في المنطقة المنكوبة، كما نتابع ما يصل إليه الدمار وكيف يعمّ الخوف من نجا من الموت، فحتى القليل من هؤلاء ممن لم يفقد المسكن مع الأهل قد يبيت في العراء خشية من هزات أرضية جديدة، تُلحقه بمن سبقه إلى الموت!
ومن الظواهر الطبيعية والكونية ما يثير الإعجاب والتفكر، لا سيما وهو لا يسبب أذى كالكسوف والخسوف، ومنها أيضا ما لا يثيرنا رغم عظمته، لمجرد اعتيادنا عليه، كتعاقب الليل والنهار، والسراب في الصحراء، وانبثاق المطر من السحاب، وجميع ذلك هو من آيات الله تعالى، ونحن لا نربطه عادة بخرافات وخزعبلات، ولا نبني عليه أساطير وتنبؤات، بل نتدبره ونتعلم نواميسه، ونسعى للاستفادة منه، علام لا يسري ذلك على الظواهر الطبيعية الأخرى التي توصف بالكوارث؟
الأصل أن الزلازل والبراكين والفيضانات والأعاصير وما شابهها، هي من آيات الله أيضا، وقد تكون فعلا عقابا أو ابتلاء ربانيا، ولكن لا يعلم ذلك إلا الله وحده، فلا ينبغي الجزم به ولا إنكاره، أي لا ينبغي تحديدا الربط بين ما نشهد من ظاهرة بعينها أو كارثة محددة بأحداث أخرى من صنع الإنسان، الذي شاء الله تعالى أن تكون له إرادة ذاتية فيقرر ويتصرف في دار الابتلاء. إنما يبقى سلوك التدبر وتعلم النواميس والاستفادة منها هو الثابت تجاه تلك الظواهر والكوارث، سيان هل أصاب مفعولها المسلمين أو غير المسلمين، والأبرياء أو الظالمين. ومن ذلك الانطلاق مما يرسخه الإسلام تربية وسلوكا، فلا يبقى للمسلم والمسلمة عند وقوع الكارثة، سوى أداء الواجب من مواساة ودعم، على أساس الأخوة في العقيدة، أو الرابطة الإنسانية الشاملة، دون تمييز.
مسؤولية بشرية
لقد جعل الله تعالى تلك الكوارث الطبيعية جزءا من تركيبة الكون، لحكمة يعلمها، وأعطى الإنسان من القدرة على التعلّم ما يمكّنه أن يقدر مسبقا احتمال وقوعها وحجمها وما يمكن أن ينبني عليها من مخاطر، كما أعطى الله تعالى الإنسان من القدرة على الإبداع، ما يمكّنه من اتخاذ الاحتياطات الممكنة، للتعامل مع تلك الكوارث، ومنها في ميدان الوقاية من آثار الزلازل مثلا اختيار مواد البناء، والحرص على مواصفات معينة في هندسته، وغير ذلك مما أصبح من العلوم التخصصية، ولذا يحمل الإنسان نفسه قسطا من المسؤولية عن نتائج الكوارث، عندما لا يضع ما وهبه الله تعالى موضع التطبيق، نتيجة إهمال أو طمع أو ما شابه ذلك.
ومن جانب آخر نعتقد جازمين أن الله جل وعلا قادر أن يصيب بعقابه في الحياة الدنيا من يشاء، وأن ينجي من يشاء، وقادر أن يمهل الظالم، وقد يأتي العقاب من حيث ينتظره الطواغيت من ورثة فرعون أو قارون، أو يأتي بغتة من حيث لا ينتظرون ولا يشعرون، جميع ذلك جزء من العقيدة ولكن ما يرتبط بمسؤوليتنا وسلوكنا منه لا يقوم قطعا على توظيف وقوع حدث طبيعي كارثي بعينه لغرض ما في إطار منهج عمل أو مخطط أو دعوة أو سياسة أو مقالة.
ولا يحملنا القصص القرآني عن مصائر الطغاة والكافرين بوسيلة من الوسائل ذات العلاقة بالكوارث الطبيعية، مهمة الانطلاق منها مصدرا لاستنباط مقاييس تربط بينها وبين سلوك سياسي أو دعوي أو ثقافي تجاه حدث معاصر، فإسقاط النصوص على الوقائع ليس أمرا اعتباطيا، إنما هي قصص وشواهد تاريخية لتعزيز قوة العقيدة، وتوجيه السلوك، بما يتكامل مع ما وضعه تعالى من سنن ونواميس أخرى، تنطلق من القدرات والطاقات البشرية بصورة مباشرة، وينبثق عنها السلوك الفردي القويم، سواء في تغيير وضع من أوضاع الظلم العدواني والاستبدادي، أو في التعامل الإنساني مع حصيلة مأساوية لكارثة من الكوارث الطبيعية.
إن المسؤولية الفردية والجماعية في ميدان تغيير أوضاع الظلم والاستغلال لا ترتبط بوقوع زلزال أو بركان، عقابا وابتلاء، ولا ينبغي نشر الأوهام بذلك، إنما ترتبط بقاعدة تغيير ما بالنفس وبالعمل المنهجي وسوى ذلك من أسس التغيير وشروطه، وما علّق الإسلام النصر في الحياة الدنيـا على وقوع صاعقة أو إعصار، وإنما على العقيدة الصادقة والأخذ بأسباب القوة، ولا يبدل ذلك شيئا من الحاجة إلى اليقين المطلق المتجدد بأن النصر من عند الله يؤتيه من يشاء متى يشاء.
سلوك مطلوب
في مقدمة ما يتداعى من خواطر بصدد الظواهر الطبيعية من جهة، وبصدد الخلل في توظيف وقوعها من جهة أخرى للتعامل أو الموقف الواجب إزاء أحداث مأساوية ناجمة عن سياسات وممارسات عدوانية، يعايشها الفرد المسلم، في بلده وفي العالم من حوله:
١- من الناحية العقدية، تستدعي ظاهرة كالكسوف أداء صلاة الكسوف مثلا، إعرابا عن الإيمان بقدرة الخالق جل وعلا وهو يرينا آياته في الآفاق وفي أنفسنا، كذلك تستدعي الكارثة الطبيعية كالزلزلة التوجهَ إلى الله بالدعاء أن يجنب عباده ما يكرهون ويعين على ما يصيبهم، ومن ناحية المسؤولية والواجب العملي، تستدعي الكارثة نفسها نهوض الفرد بما يستطيع لتقدم الغوث.
٢- في الحالتين لا علاقة لذلك بما يجب صنعه على أرض الواقع في مواجهة ألوان العدوان والظلم والاستغلال والتخلف، وغير ذلك مما يواجهه المسلمون وتواجهه البشرية ويعاني منه جنس الإنسان، فهذا مما يفرض على الفرد أن ينهض بمسؤوليته، ويبذل جهوده، ويؤمن المزيد من الطاقات والإمكانات، ويتجنب المحظورات، كي يحقق التغيير عبر المنهج الذي يعتقد بصوابه، ليغير الواقع المنحرف حيث يجب التغيير، ووفق ما تقتضيه أمانة حمل الرسالة الإسلامية وتحقيق الخير بها للإنسان.
٣- إن تمادي الظالمين في ظلمهم، والمعادين للإسلام في عدائهم، من خارج الحدود وداخلها، في مقدمة ما يثير المشاعر الشاذة والسلوكيات الضارة، بدءا بإحساس الشماتة أحيانا عند حدوث الكوارث، انتهاء بانتشار بذور العداء والرغبة في الانتقام، وربما المزيد من أشكال التشدد والتطرف، ولا يضمحل ذلك دون مواجهة التمادي في الظلم والتطاول على الحرمات والحقوق والحريات.
٤- ومن أسباب الطغيان والتمادي والتطاول وكذلك من أسباب الشذوذ في طريق مواجهتها، غياب قول كلمة الحق المتوازنة، التي لا تخاف في الله لومة لائم، أو تغييبها أو تمييع مفعولها، وهذا مما يحمل القادرين على ذلك من علماء ومفكرين وإعلاميين وسواهم، مسؤولية إضافية، فليس أمرا هينا أن يبلغ الأمر بجيل الشبيبة، مستوى من احتقان الألم، إلى درجة يعبر عنها انبثاق تلك المشاعر والممارسات السلبية المشار إليها، وعلى وجه التخصيص في مواكبة وقوع الكوارث الطبيعية، أي في اللحظة التي يُفترض فيها أن تستثار مشاعر الحزن والألم والمواساة والاستعداد لتقديم العون.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب