الفيشة

ــــــــــ

تاهت عيناه بين وجوه العابرين عن يمينه وعن يساره حيث وقف وراء الحاجز الفاصل بين المستقبلين والقادمين في المطار، يتفحص الكبير والصغير، الطويل والقصير، الأبيض والأسمر.. ولم يكن فيهم من يشبه ابنه، وقليل منهم من كان في عمره، وقد تجاوز الثالثة والأربعين قبل شهر واحد.. ثم إن الإعلان عن هبوط الطائرة القادمة من لندن خرج من مكبر الصوت قبل لحظات، وما زال القادمون على متنها في حاجة إلى بعض الوقت للخروج منها، وانتظار الأمتعة، وعبور مراكز الجمارك والأمن..
هل استوقفه أحد؟
وانتفض جسده رافضا ذلك الخاطر، لا داعي لهذه القشعريرة التي سرت في أوصاله، ألم يطمئنه جاره أن “فيشة” ابنه لدى المخابرات بيضاء نظيفة، أو أصبحت كذلك بعد الوساطات، وما صنع ابنه شيئا ولا ارتكب إثما، ولكن تلك “الفيشة” اللعينة كانت من صنع وشايات رفاق السوء كما أخبره جاره، أبلغوا عنه قبل زمن بعيد أشياء وأشياء، بعضها تافه لا قيمة له، ولكن كأنما يحب موظفو المخابرات عملهم حبا جما، فهم يتمسكون بكل صغيرة وكبيرة، ويستسهلون كلمة “مشتبه به” يدمغون بها إنسانا لا يعرفون عنه سوى اسمه، فإذا وقع في مصيدتهم انتشر اسمه على الحدود، ويا ويحه إن أتى إلى المطار جاهلا بما ينتظره!

وتململ في وقفته.. علام يفكر على هذا النحو؟ فلينتظر قليلا وينجلي الأمر، ثم إن جاره موظف كبير في المخابرات، ولا يمكن أن يكون قد أخطأ فيما قال، لا شك أنه راجع كافة الأجهزة، ولكن ماذا لو فاته أحدها؟ ألا يقال إن أجهزة المخابرات السبعة هذه لا يعرف بعضها عن بعضها الآخر شيئا؟ ألم يفصلوا فيما بينها حتى صارت وكأنها في سبعة بلدان متباعدة؟ ماذا لو كان اسم ابنه في أحدها ولم يطلع جاره عليه؟
وتنبه من أفكاره السوداء على صوت زوجه بجانبه:
– لقد تأخر غسان كثيرا..
ووارى اكفهرار وجهه وراء ابتسامة عريضة حانية، وبذل قصارى جهده ليصب الاطمئنان على لسانه مع كلماته:
– اصبري قليلا، لقد صبرنا سنوات في انتظار هذه الزيارة، ولم يبقَ إلا دقائق معدودة
دقائق.. أطول من تلك السنوات الماضية كلها، لقد غادرهم غسان وهو في الثامنة عشرة من عمره، حصل على الشهادة الثانوية ومضى للدراسة في لندن، ليته بقي في بلده ودرس الطب كما أراد أبواه، وما كانت علاماته تعوقه، فقد كان متفوقا في شهادته كما كان متفوقا من قبل على الدوام، كان أصغر إخوته وأذكاهم..
وتلفت يمنة ويسرة كأنه يخشى أن يسمع بعضهم أفكاره التي تجيش في صدره، فكم كانوا يغارون من أخيهم الأصـغر، ويتهمون أبويه بتفضيله عليهم، وعندما تقرر سفره إلى لندن لدراسة الهندسة الإلكترونية كما أراد، اعتبروا ذلك تفضيلا له أيضا.. وما زالوا يتحدثون بذلك ويتندرون، جادين حينا هازلين حينا آخر، منذ خمس وعشرين سنة كاملة.. وما كان يفضل أحدا على أحد، لكن وضع الأسرة المادي تحسن آنذاك قليلا، لا أقل ولا أكثر، وأصبح باستطاعته اقتطاع شيء من دخله لتأمين دراسة ابنه في أوروبا، ثم هو لم يحمل أسرته عبئا كبيرا، اشتغل وهو في الجامعة من بعد فكفى نفسه بنفسه، وتخرج فاستلم منصبا مرموقا وصار يرسل إلى أهله المال رغم عدم حاجتهم إليه.. وفقه الله، ربع قرن كامل مضى على فراقه.. زارته أمه في لندن، أما هو فلم يستطع زيارته طوال هذه السنين، وكان يأمل أن تنجلي المشكلة ويأتي غسان كما أتى سواه، وكان يعرف كم كان يود ابنه أن يعود إلى بلده ليعمل فيه، وقد أراد الحضور في أول زيارة بعد ثلاث سنوات من الغربة، وبعث إليهم ينبئهم بقدومه الوشيك، فأرسل إليه بنفسه يحذره من القدوم، كانت تلك من أصعب لحظات حياته عليه، يريد رؤية ابنه، ثم يقول له لا تحضـر.. فقد بلغه أنه مطلوب، اسمه في “الفيشة” على الحدود وفي المطارات وستلتقطه المخابرات فور وصوله.. خشي عليه، وخشي حتى من الكتابة الصريحة له، ولكن غسان فهم مراده من التلميحات، فقصص أمثاله معروفة للقاصي والداني.. وطالت الغربة، سنة بعد سنة بعد سنة
وعاد صوت زوجه يشكو في أذنيه:
– ألا تسأل عنه؟ لقد خرج كل المسافرين..
– كلا.. هؤلاء من طائرة أخرى بالتأكيد.. سيخرج قريبا.. اطمئني..
وكان هو أشد احتياجا إلى من يطمئنه، وتمنى لو أتاه بعض أولاده يحدثهم ويحدثونه، أو يشغلون أمهم عنه على الأقل، ولكنهم مشغولون مع أزواجهم وأولادهم في جانب من قاعة استقبال المسافرين، بينما زاحم هو وزوجه المستقبلين حتى أصبحا في المقدمة، ولم يعد يوجد حولهما إلا أفراد معدودون، لعلهم قلقون مثله على أقربائهم..
– هذا هو.. هذا غسان..
وشعر بصوته قد قهر أثقال سبعين عاما على كاهله لينطلق كصوت طفل صغير سر بهدية العيد، وشاحت عيناها مع زوجها نحو ابنهما، نعم لقد ظهر أخيرا في الرواق الطويل، هذا هو، كما في الصور التي لا يملاّن من تأملها.. ولكنه ليس وحده، مَن هذا الرجل الفظ الذي يمسك به؟ وشعر بخفقات قلبه تطغى على الضجيج حوله، وتكاد تخرج من بين أضلاعه.. وضغط بيده على صدره مهدئا نفسه، لقد خالف نصيحة الطبيب وخرج إلى المطار بنفسه، وكيف لا يخرج وابنه قادم بعد خمس وعشرين سنة.. ومن قال إن فرحة اللقاء يمكن أن تزيد إصابته.. وأراد أن ينادي ابنه وقد أصبح في مرمى بصره، وكبت صوته، هذا الرجل من المخابرات حتما، وجوههم السوداء الكالحة معروفة، ما الذي يريد من ابنه؟ علام يمسكه من معصمه؟ إلى أين يمضي به؟
– من هذا الرجل يا أبا وليد.. إلى أين يذهب بغسان؟
وكان عاجزا عن الإجابة.. أو لا يريد الإجابة.. وهو يتساءل مثل تساؤلها فبماذا يجيبها..

– اذهب إليه.. اسأله ما الأمر.. ألم تقل إنه لا توجد مشاكل؟
مشاكل؟ ابنه أشدّ الناس وداعة وهدوءا ودماثة أخلاق.. كيف يتهمونه بما اتهموه به؟ أمثل هذا الشاب المشغول بدراسته وعمله يمكن أن يكون إرهابيا.. وماذا يعني الإرهاب في قاموسهم؟ ويحهم.. ويحهم..
– اذهب إليه..
كيف يذهب إليه.. سيزيد الأمر تعقيدا.. وكيف يتجاوز الحاجز.. وكيف يسأل والسؤال جريمة.. لقد كان يخشى السؤال عن وضع غسان سنوات عديدة خشية على إخوته، وما أنجاهم ذلك من مساءلة المخابرات، أكثر من عامين وهم يأخذونهم واحدا بعد الآخر، ساعة وساعتين وأكثر، سؤال وجواب، بلا نهاية، الأسئلة نفسها، والأجوبة نفسها، ثم يطلقون سراحهم.. ولا يعرف أحد سبب المساءلة.. ولا ماذا يريدون منهم
ولمح ابنه وقد دخل به الرجل عبر باب في الرواق عليه لافتة صغيرة، وجحظت عيناه نحوها، ولكن يستحيل أن يقرأ ما كتب عليها عن بعد، ما الذي يريدونه من غسان..
وشعر إخوة غسان بما يجري، فأقبل أكبرهم وليد نحو أبويه يتساءل:
– ما بكما؟ ما الذي حدث؟
– المخابرات.. أخذوا غسان إلى المخابرات..
– المخابرات.. وكيف علمت؟
– أدخلوه عبر هذا الباب هناك، هذا باب المخابرات حتما
وشعر أبو وليد بغصة في حلقه، وبظلمة تغشى عينيه، وتلفت حوله فَلاحَ له مقعد قريب، فجر نفسه نحوه وجلس وهو يقول:
– اذهب أنت واسأل عنه، لا أستطيع الحراك، أو انتظر قليلا، لعله يخرج بعد قليل

وقالت الأم ملتاعة:
– كيف ننتظر؟ لا أستطيع الانتظار، اذهب يا وليد واسأل عن أخيك قبل أن يخرجوا به من باب آخر
كانت متمالكة نفسها حتى تلك اللحظة، ثم غلبتها دموعها فانفجرت من مآقيها، وأخرجت من حقيبة يدها بصعوبة بالغة منديلا تكفكف به دمعها، قبل أن يحجب البابَ البعيدَ عن ناظريها
– اهدأي يا أمي، اهدأي قليلا
– أهدأ؟ أنا لا يهمني أحد.. أريد ابني.. أريد أن أراه.. ائتوني به.. ائتوني بغسان
واختنق صوتها في عبراتها، وجمع وليد قواه متشجعا، وتوجه إلى أحد رجال الأمن خلف الحاجز وقال:
– عذرا يا أخي.. ما هذا الباب هناك؟

ورمى الرجل ببصره حيث أشار وليد، ثم قال بصوت ساخر:
– هذه غرفة الأمن العسكري.. ماذا تريد؟
– لا شيء.. لا شيء.. مجرّد سؤال.
وتوجه نحو أبيه وقد بدأ يساوره القلق عليه كقلقه على أخيه، ولحقت به أمه تقول:
– ماذا قال لك الشرطي؟ أين غسان؟

– لا أدري.. ولا يدري الرجل.. ولكن يبدو أنه إجراء “روتيني” فقط، اطمئنوا واهدؤوا، لا يفيد الضجيج الآن.
وأمسك الأبوان أنفاسهما المتلاحقة.. ولم تستطع أم غسان إمساك دموعها، ولكن التزمت الهدوء، وكأنها تأمل أن يقدروا هدوءها فيدعوا ابنها وشأنه، وجلست بجانب زوجها لحظة، ثم انتصبت واقفة من جديد ناظرة إلى الساعة وسط القاعة، ثمّ إلى وجه زوجها وقد اعتراه شحوب شديد، ولم تسأل عمّا به ولكن حاولت التظاهر بالهدوء تخفيفا عنه، وألفُ خاطرة وخاطرة تجول وتصول في رأسها كأسياخ من نار.. لا تدري كم مضى من الوقت، كأنه الدهر كله يتحرك مع عقارب الثواني والدقائق، وبدأ فوج آخر من القادمين يعبر المكان، فكادوا يحجبون عنها رؤية الباب البعيد في الرواق.. وزاحمت الجمع مجددا وتقدمت حتى الحاجز فكادت تتجاوزه، فانتهرها أحد رجال الأمن:
– ما بك يا امرأة.. ألا تنتظرين كسواك؟
– ابني..
وحبس الدمع الكلمات في حلقها.. ورأت الباب يُفتح فرفعت صوتها تقول:
– ها هو.. ها هو..
وفارقت صوتها رنة الفرحة وهي تقول متلفتة نحو وليد:
– كلا إنه رجل آخر، وليد، اذهب واسأل هذا الرجل عن غسان، أين ذهبوا به، وليد..
وتحامل أبو وليد على نفسه قائلا لابنه:
– كلا.. ابقَ أنت عند أمّك، وسأذهب بنفسي..
وتقدم نحو الحاجز الأمني، وجمع كل قوته في حنجرته ليرفع صوته مناديا:
– يا أستاذ.. يا أستاذ..
وحملق به رجال الأمن واعترضوا طريقه، ولم يسمع ما يقولون، واستمر يلوح بيديه وينادي، حتى التفت الرجل إليه، فتقدم نحوه وعلى وجهه علامات الدهشة:
– ما بالك يا عم؟ من أنت؟

وتعلق بذراعه وهو يقول والكلمات تتسابق على شفتيه المرتعشتين:
– ابني غسان.. أرجوك، قدم من السفر منذ ساعة، وأدخلوه هذه الغرفة، هناك، عبر هذا الباب، أمه وإخوته في انتظاره، أخبرني ما القصة.. علام أمسكتم به؟
وخيل إليه أنه يرى في عيني الرجل علامات الشفقة وهو يقول:
– ما اسمك؟
– أنا عبد الله الكيلاني، وابني غسان الكيلاني، أرجوك أخبرني ما الذي حدث؟ علام تحتجزونه؟
وصمت الرجل لحظة، ثم قال:
– يا عمّ.. لا أدري، أنا لم أستوقف ابنك، ولكن رأيته وهم يحققون معه، لا شيء يدعو للقلق، مجرد سؤال وجواب، اسمه موجود في القائمة لديهم، وهذا واجبهم.
وتهدّج صوت أبي وليد وهو يتوسل للرجل قائلا:
– ابني لم يفعل شيئا، أقسم لك لم يفعل شيئا، أرجوك، خذني إليهم، سأوضح لهم كل شيء، أمسكوا بي إن شئتم ودعوه لأمه وإخوته..
واشتدت قبضته على ذراع الرجل كأنه يخشى أن يهرب منه، فشرع الرجل يخلص نفسه متلطفا ما أمكن، وقال:
– يا عمّ.. لا داعي أن تذهب أنت، انتظر هنا، سأسأل عن وضعه وأعود إليك
– نعم.. نعم.. أرجوك.. سننتظرك هنا
وتوجه الرجل نحو الباب المغلق، ففتحه واختفى وراءه، وأمسك وليد بأبيه وقد شعر بقواه تتلاشى، فمشى به خطوة خطوة إلى المقعد فأجلسه وهو يهدئ من روعه، وتجمع بقية إخوته وأولادهم، وقد لزموا الهدوء كأن على رؤوسهم الطير يحملقون في وجه جدهم الشاحب
دقائق ثقيلة معدودة.. وأقبل الرجل عليهم من جديد، ولم يستطع أبو وليد الوقوف، وقد أمسك صدره بيد وذراع ابنه باليد الأخرى، ونظر بعينين ملهوفتين يحاول أن يقرأ الجواب على وجه الرجل القادم نحوه:
– اطمئنوا.. مجرد خطأ، لقد قرأ الموظف اسم غسان الجيلاني وحسبه غسان الكيلاني، وظهر بعد مقارنة اسم الوالدين أن ابنكم غير مسجل في القائمة، لحظات ويأتيكم بعد أن يحزم أمتعته.
وأراد أبو وليد عناق الرجل الغريب وتقبيله وخانته قواه، فبقي جالسا وهو يلهج بعبارات الشكر والامتنان، ودمعت عيناه لأول مرة أمام أولاده وأحفاده.. وقد توجهوا معا نحو الحاجز الأمني من جديد، وأراد اللحاق بهم فلم يستطع النهوض، كأنما التصق جسده بالمقعد.. لا يستطيع الاطمئنان.. لا يستطيع حتى يخرج مع ابنه من المطار.. حتى يصل به إلى المنزل..
وأشرقت عيونهم المتوجهة نحو الباب بالفرحة الغامرة وقد رأوه يُفتح ويخرج غسان منه يدفع عربة الأمتعة أمامه، ورأى أهله يكادون يقفزون في أماكنهم بانتظاره، فتوجه إليهم، وانشغلوا بالعناق، والبكاء، والضحك، وأبو وليد على المقعد غير بعيد عنهم.. فاستجمع ما بقي له من قوّة، ووقف يتمتم:

– الحمد لله، الحمد لله.. خرج غسان.. عاد غسان..

واختلطت الكلمات على شفتيه، واختلط مشهد أحفاده وأولاده مع أمهم في عينيه، وشعر بنبضات قلبه تمزق صدره، وبركبتيه تخذلانه، فسقط على المقعد خلفه من جديد.. وارتعش جسده من قمة رأسـه إلى أخمص قدميه وهو يردد.. الحمد لله.. الحمد لله.. لا إله إلا الله.
وفارق الحياة.

نبيل شبيب

الاغترابالمخابرات