رأي
ما الذي يكمن وراء التلهف الأمريكي ومعه تلهف أوروبي لبذل الغالي والرخيص، مع التخلي عن المقدس والمدنس من قيم بشرية مشتركة، من أجل إخماد ما انبثق من حرائق عن طوفان الأقصى.
لا يوجد في مسار التاريخ حدث قائم بذاته، بل يأتي الحدث الكبير دوما كحصيلة أحداث سابقة متتابعة، بنتائج تراكمية متداخلة في بعضها بعضا، كما أن الحدث المعني نفسه مصدر لإضافة نتائج أخرى تساهم في صنع تشكيلة مستقبلية.
ويعكس ذلك مدى الاحتقان في ازدياد لهيب التلهف إلى درجة التخبط مع تتالي موجات الضخ العسكري والمالي والسياسي في الجبهة الأمامية أو الثكنة المركزية، لاسترجاع ما كان قائما قبل الطوفان بصيغته المزعومة، ديمقراطية لا مثيل لها إقليميا، وقوة جبارة لا تُقهر، وتقنية متقدمة لا تُدرك، وهيمنة استخباراتية لا تُخرق.
إن الهزة التي أصابت الكيان الاستيطاني الدموي، كشفت البقية الباقية من التمويه على حقيقة أنه ليس كيانا قائما بذاته، بل هو من صلب الجسد الأخطبوطي للهيمنة الغربية بزعامتها الأمريكية، وعلاوة على ذلك هي هزة لم تبق شيئا مما تتدثر به الكيانات الإقليمية الأخرى والأنظمة السياسية والاقتصادية المعبرة عنها، فهي أيضا من صلب تلك الهيمنة نفسها، تتورم مثلها وتتلوى معها.
إنما تطرح متابعة مسارات الحدث وتداعياته المتفرعة، محليا وإقليميا ودوليا، تساؤلات أبعد مدى في مفعولها وفي تداخل النتائج التراكمية المتوقعة لها. هذه النتائج تدور حول محور رئيسي:
لم يعد يصح الحديث عن هياكل مهيمنة دوليا وإقليميا كرواسي الجبال الثابتة، بينما يتوالى ظهور معالم اختلاف في خارطة سيولية متقلبة يوميا، ليس من باب ما قبل الطوفان وما بعده، وما شابه ذلك من أطروحات، بل من حيث طبيعة الأحداث ونتائجها المتغيرة منذ بداية تكوين البنية العالمية المنبثقة عن حربين عالميتين، وتشي محطات التغيير بمعالم تصدع متزايد، على مستوى العلاقات الدولية، والعلاقات بين شمال الأرض وجنوبها، وداخل كل من البنى الهيكلية القديمة على حدة، وآخر الشواهد على ذلك حاليا، ما تطرحه الانتفاضة الطلابية في الجامعات الأمريكية، مقترنة بتبدل رؤى جيل جديد، عما كانت عليه رؤى جيل مسيطر على صناعة القرار، حتى الآن، مع السؤال: إلى متى؟ ثم ما حجم النتوءات والأخاديد القادمة في هيكلية بنيوية جديدة متوقعة، عند انتقال مقود السفينة الأمريكية، من جيل إلى جيل، وهذا مع النقلة من عالم تفجير القنبلة الذرية الأولى في تاريخ البشرية إلى عالم يطرح التساؤلات عما قد يسفر عنه استخدام الذكاء الاصطناعي من قرارات غبية وقد تكون كارثية. وهذا مع العلم أيضا أن ما يسري على الكيان الأمريكي يسري بمعالم مشابهة على الأقطاب الأخرى، الصيني والروسي والأوروبي.
إن طوفان الأقصى أشبه بعدسة واحدة من عدسات مجهر ضخم، يرفع الغطاء عن ثغرات أخرى من صنع اليد البشرية في مجرى التاريخ، ولعل أهميته الأكبر تعود إلى تزامنه مع لحظة ترجح ارتفاعا ضخما لموجات ما يسمّى تسونامي يجرف ما يصل إليه فلا يبقي ولا يذر.
وأستودعكم الله خالق الأكوان ورب العالمين، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب