رؤية تحليلية
(الصراع العسكري الدامي في السودان عام ٢٠٢٣م، لم يبدأ بنزاع طرفين عسكريين بل كانت برمجته الأولى مع وضع مستقبل السودان على كف عفريت كما يقال، عبر ما سمي مفاوضات بذرت بذور هيمنة العنصر العسكري على مسار ثورة شعبية ضد حكم العسكر. رغم ذلك تبقى الرؤية التحليلية المستقبلية أقرب إلى ترجيح انتصار الإرادة الشعبية، ولكن لا يزال أمام شعب السودان – وأشقائه في بلادنا – طريق طويل ليحقق تطلعاته المشروعة نحو وضع جديد، عادل وكريم ومستقر، يجمع بين حقوقه وحرياته الإنسانية، المعنوية والمادية، ويفتح أبواب النهوض بين يدي الأجيال القادمة).
٠ ٠ ٠
لم يكن استخدام قوة البطش في مواجهة الحراك الثوري السلمي مفاجئا، حتى لمن كان يبدي تفاؤلا حذرا تجاه تصريحات رسمية من جانب المجلس العسكري بدعم طريق التغيير الثوري وإقدامه على بعض الإجراءات لاسترضاء القوى الشعبية أو لخداعها، وأبرز تلك الإجراءات عزل البشير بعد أن اهترأ عهده وبات بقاؤه في موقعه مستحيلا على كل حال، وهو في الواجهة من نظام استبدادي، لا يقوم على فرد واحد، بل على أجهزة داخلية وعلاقات خارجية.
ولم يكن مفاجئا أيضا الدعم السريع للمجلس العسكري، ماليا وسياسيا، من جانب أنظمة إقليمية لطالما موّهت على تحركها ضد التغيير الثوري وتحرير الشعوب بأنها تواجه بذلك الخطر المزعوم من جانب ما يسمّونه الإسلام “السياسي”، وهذا بعد ابتكار تلك الكلمة دوليا ومحليا لمواجهة موقع الإسلام شعبيا وقيامه على تحرير إرادة الشعوب من مسلمين وغير مسلمين على السواء.
إن التعامل الخارجي مع السودان وحراكه الثوري تخصيصا يجسّد جوهر التحرك المضاد للثورات الشعبية وهو ترسيخ الاستبداد سيان بأي لون، وتحت أي راية، حقيقية أو مزعومة.
يلتقي ذلك أيضا مع ما ظهر من المواقف والتصريحات الرسمية الصادرة عن ممثلي قوى الحرية والتغيير، فقد كان من العسير رؤية أي مؤشرات إسلامية المضمون تعطي مبررا ظاهريا للتحرك المضاد للثورات كي يستخدم مع مسار الأحداث في السودان تلك المعزوفة المشروخة تحت عنوان إسلام “سياسي”، وهو ما يؤكد أن المرفوض هو تحرر الإرادة الشعبية من حيث الأساس، كما يؤكد في الوقت نفسه أن ابتكار تعبير الإسلام “السياسي” والتذرع به في مواجهة الثورات الشعبية، كان -ولا يزال- لمواجهة الإسلام نفسه، باعتباره في مقدمة عناصر تحرير الإنسان، جنس الإنسان، لا سيما في بلادنا العربية والإسلامية، وفي مقدمة عناصر تقويض الاستبداد، بمختلف أشكاله ومسمياته، وما يعتمد عليه من ظلم وفساد.
إن أحداث السودان تضيف مزيدا من الشواهد على أن أهداف الحرية والكرامة والعدالة والأمن والرخاء من خلال تحرك تغييري شعبي ثوري فعال، أهداف مشروعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتلاقي من وراء تعدد الانتماءات والرايات على أرضية القواسم المشتركة، وهذا ما ينبغي أن يؤكد عليه المخلصون في العمل لتحرير الشعوب والأوطان، دون إقصاء بعضهم بعضا ومن خلال التركيز على القواسم المشتركة والتوافق على صياغة الأولويات الكبرى وقواعد منصفة للتعامل البيني دون اشتراط حل مسبق لاختلافات الرؤى البعيدة المدى، وهي التي لا يمكن إلغاء أيّ منها ولا بد من الاحتكام بشأنها مستقبلا من خلال اعتماد مرجعية الشعوب بعد تحرير إرادتها وضمان نزاهة الاحتكام إليها.
وأستودعكم الله ومعكم السودان وشعبه ومستقبله، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب