تحليل
ما يدور في ليبيا وحول ليبيا يدور على حدّ شفرة السكين إذا صح التعبير، وإذا كان بعض المشاركين فيه ينطلقون في بعض الميادين من منطق سياسي وقانوني وإنساني، فمن أطراف الصراع من يطبق ما اعتاد أسلافهم عليه من سياسات وممارسات عدوانية تعتمد على ركائز محلية، أو ما سبق وانطلقوا منه حديثا من أوهام داء العظمة، وهم أقرب إلى بيادق في مسرح للعرائس تحركهم وتجمدهم حسب أهوائها قوى دولية حريصة على الحيلولة دون أن تستقر المنطقة على حال، أي حال.
من يتابع الحدث الليبي من خارج دوائر الصراع المتداخلة في بعضها بعضا، سواء كان عربيا أو غير عربي ومسلما أو غير مسلم، يحتاج إلى كثير من الفهم والعلم والصبر لاستيعاب مواقف يتخذها كثير ممن ينسبون أنفسهم إلى نخب بلادنا وشعوبنا ويتحدثون باسم اتجاهات متباينة في صفوفنا، لا سيما وأن تلك المواقف تتقلب وتشتطّ سكوتا أو صياحا، إزاء مفردات الحدث الليبي وتطوراته المتسارعة، بعيدا عن معايير منطقية يلتزمون بها، ناهيك عن إنصاف يرتفع بصاحبه فوق الانحياز بسبب انتمائه لتوجه من التوجهات، لا سيما عندما يتركز اتخاذ الموقف على تركيا أو مصر مثلا ويغفل عن سواهما.
هذا.. ويمكن في الأصل الرجوع في اتخاذ موقف من الحدث الليبي إلى معايير منطقية، بعد تحديدها مسبقا حتى اعتمادا على ما تردده ألسنة أطراف الصراع على ليبيا ومستقبلها، وألسنة المنحازين هنا أو هناك، ومن ذلك:
وحدة التراب الليبي وسيادة الشعب الليبي
جميع الأطراف يزعمون الحرص على وحدة التراب الليبي واستقلال الدولة الليبية وسيادتها.. فمن ينطبق عليه مخالفة هذا المبدأ؟
غالب المواقف المتعلقة بذلك تذكر تركيا، فلندع التعاطف أو التأييد، والرفض أو العداء، تجاه تركيا وسياساتها منذ وصول حزب العدالة والتنمية للسلطة عبر الانتخابات.. ولنتساءل قدر الإمكان بشيء من الحياد: هل خالفت تركيا فعلا مبدأ وحدة التراب الليبي واستقلال الدولة الليبية وسيادتها؟
تركيا دولة من دول عديدة دعمت أيضا تشكيل حكومة السراج في ليبيا، أو شاركت في ذلك عبر مؤتمر دولي، أو تعاملت معها سياسيا وهو ما يوصف بالاعتراف الواقعي باللغة الحديثة سياسيا، ثم – وهذا ذنب تركيا بمنظور خصومها – وجدت تلك الحكومة مزيدا من التأييد والدعم من جانب تركيا سياسيا وأمنيا واقتصاديا، عندما تعرضت لخطر إسقاطها بالقوة العسكرية المحضة؟
بالمقابل ماذا يقال بمعيار وحدة التراب الليبي واستقلال الدولة الليبية وسيادتها، بشأن الدول التي تقدم علنا وسرا الدعم العسكري أو المالي أو السياسي، أو جميع ذلك معا، لصالح طرف عسكري ليبي، حتى ولو كان “جيشا وطنيا حقا” ينقلب بنفسه، ويستعين بمرتزقة من خارج البلاد، ضد تلك الحكومة، وضد اتفاقات انطلقت من تثبيت وحدة البلاد وكان شريكا فيها؟
لغة المصالح بين الانحياز والإنصاف
جميع الأطراف يتحدث عن مصالحه الذاتية التي يعتبر الانطلاق منها في سياساته دوليا أمرا مشروعا، ألا يمكن النظر في ميزان تلك المصالح دون انحياز، ودون ازدواجية تتجسد كأمثلة في رفض تلك المصالح إن كانت تركية وقبولها إن كانت فرنسية، ورفضها إن كانت إيطالية وقبولها إن كانت إماراتية، وهكذا، لا سيما عند البحث – وما أصعبه – عمّا هو مشروع متوازن متبادل فعلا لا زعما من تلك المصالح، التجارية والمالية والاقتصادية والبحرية والأمنية؟
لغة المصالح تشمل في الحدث الليبي تخصيصا قضايا الطاقة والتجارة وإدارة الموانئ البحرية وممرات الوصول إلى قلب إفريقية، كما تشمل فيما تشمل على الصعيد البحري مصالح البشر المشروعة في مناطق مستهدفة، مثل القبارصة الأتراك في شمال قبرص، والفلسطينيين في قطاع غزة جنوب فلسطين، فما هو وجه المشروعية في العداء أو التأييد موضوعيا عند الحديث بلغة المصالح، وكيف نتجنب الانحياز والازدواجية عندما لا ننطلق من معيار المشروعية بل ننطلق من اسم هذه الدولة أو تلك، أي تركيا ومصر والإمارات وفرنسا وإيطاليا.. وهكذا؟
ثم إن هذه المصالح الذاتية لا تجد من يعتمد عليها وعلى ميزان مشروعيتها، ليحتج احتجاجا جادّا وفاعلا عند تثبيتها في مواثيق عسكرية كما صنع حلف شمال الأطلسي عام ١٩٩٩م، أو عند ممارسة العدوان العلني المباشر باسم حمايتها، إذا كان من وراء العدوان الدولة الأمريكية أو الروسية أو دولة أوروبية، فعلى ماذا يستند الاحتجاج ضد الدول الناهضة عندما تعمل باسم تلك المصالح، مثل تركيا، بل حتى مصر أيضا، لولا أن النظام القائم فيها نظام استبدادي عسكري؟
إذا كان الجميع يقول إن لغة المصالح من أسس ممارسة السياسات المعاصرة.. فما الذي يدفع إلى السكوت أو إلى الاحتجاج بصوت خافت إزاء توظيفها سياسيا وكأنها فرع من فروع إرث استعماري عتيق وجديد، مقابل ارتفاع عقيرة الاحتجاج والرفض إزاء توظيفها سياسيا للتحرر إقليميا من هيمنة شرعة الغاب التي تجسد ذلك الإرث؟
الدولة الدستورية المدنية وتحكيم الإرادة الشعبية
معظم أطراف الصراع في الحدث الليبي من خارج حدود ليبيا ينوهون بضرورة استقرار دولة دستورية مدنية ومنهم من ينوه بحرية الإرادة الشعبية أو يؤكد ذلك مباشرة.
إذا اعتبرنا ذلك معيارا لفهم السياسات والممارسات واستيعابها واتخاذ مواقف إزاءها، فما مدى مصداقية أنظمة تتحدث عن هذا المعيار وما مدى مصداقية من يؤيدها، لا سيما من النخب كما تعتبر نفسها، إذا كانت تلك الأنظمة نفسها عسكرية غير مدنية، أو كانت لا تعتمد على دستور أصلا، ولا ترجع في قراراتها الكبيرة والصغيرة إلى الإرادة الشعبية، أو تزيفها بأساليب صارخة.. هذا فضلا عن أنها تمنع منظمات ما يوصف بالمجتمع المدني من ممارسة أي نشاط حقيقي؟ أين مصداقية تلك الأنظمة ومن يؤيدها؟
بل حتى لو كانت أنظمة في دول دستورية مدنية تقوم على تحكيم الإرادة الشعبية، فما مصداقية نخب تؤيدها في الحدث الليبي وهي تقف وراء دعم طرف يتحرك “عسكريا” ويرفض الالتزام أو يتخلى عن الالتزام باتفاقات سياسية لتشكيل دولة دستورية مدنية في ليبيا تحكم الإرادة الشعبية؟
الأمن القومي
قد يفتقد بعض القراء ضمن المعايير المطروحة أعلاه الإشارة إلى مسألة “الأمن القومي” من خارج حدود ليبيا في ساحة التعامل مع الحدث الليبي. والجواب:
إن الأمن القومي يعني أمن الشعب وأرضه وسيادته وحريته واستقلال قراره ودستورية اختياره لسلطة تدير شؤون البلاد باسمه، يحاسبها ويبدّلها إذا استبدت، أو أصبحت تابعة لقوة أجنبية، أو عجزت عن الدفاع عن أرض الشعب وثرواته، أو انحرفت فسادا، أو حتى أخطأت خطأ كبيرا..
فهل نحتاج حقا إلى بيان موقع حجة الأمن القومي معيارا للتعامل مع سلطة تتحدث عن توظيف كلمة “الأمن القومي” للتدخل في ليبيا، وهي سلطة اغتصبت بنفسها جميع أركان الأمن القومي للشعب، وما وصلت إلى مواقع التسلط عليه إلا عبر انتهاك أمنه القومي؟
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب