تحليل
تحركت المقاومة بإمكانات محدودة وتضحيات جسيمة، وكانت الحصيلة أصغر من الأهداف العظام، ولكن أكبر مما يتوقعه الباحثون في المعطيات التاريخية والمعاصرة. وأصبح مسار طوفان الأقصى بمجمله منعطفا مفصليا، رغم تغول همجية ردود الفعل التدميرية، ويبدو أن هذا ما استشرفه سلفا أعداء قضية فلسطين والساعون لتصفيتها بأي ثمن، ولكن هل كان مقصودا من البداية من جانب من قام على تخطيط العملية بأبعادها الاستراتيجية؟ على جميع الأحوال فُتحت أبواب كانت مغلقة من قبل، منها حضور القضية مجددا، محليا وإقليميا ودوليا.
ومن وراء كل تعليل وتعليق لا نفتقد من يسارعون إلى مواكبة مختلف جولات مقاومة العدوان الخارجي والاستبداد المحلي باللوم والتقريع، مع طرح تساؤلات تقليدية محورها: ألم نقل لكم إنكم لا تملكون الإمكانات الضرورية لتحرير الإنسان والأوطان، وتحرير الإرادة المغتصبة والأرض المستباحة، فعلام تحركتم قبل اكتمال إعداد العدة والتخطيط المنهجي؟
هذه مقولات عقيمة، لا تصنع بديلا ولا تطرح التفكير به أصلا، ناهيك عن غياب التساؤل النقدي الذاتي عن مواقعهم هم على صعيد ما يشكون منه بصدد القصور أو التقصير في العمل لتحقيق الأهداف الكبرى.
إن التحركات الشعبية مقاومة وثورات هي المستهدفة بهذه التساؤلات ولكنها ليست أجهزة رسمية ولا سلطات حاكمة، فلا تلام إن لم تتحرك بفعاليات تغييرية كبرى، والبديل هو التحرك المدروس الهادف، وهذا ما يتطلب فئات تراكمت لديها عناصر المعرفة والخبرة والقدرة على التخطيط والإدارة والتوجيه والمتابعة، علما بأن التغيير الجذري لا يُصنع عفويا ولا عشوائيا من جانب العامة، فكيف تُسأل جماهير الشعوب إذن عن قصورها في ميادين هي من اختصاص السائلين، بل إن تحركها الثوري أو المقاوم كما تمليه يقظة الوجدان، ينطوي على اتهام مرير للنخب أنها لم تخطط ولم تتحرك ولم تمارس التوعية ولا الريادة كما ينبغي.
أركان صنع التبعية
في محاضن الإحباط لم تنشأ الانهزامية مع التبعية بسبب مواصفات متوارثة مزعومة، بل صُنعت صنعا بوسائل خارجية وداخلية، كان من بينها في الحقبة التاريخية الأخيرة:
١- ممارسة شرعة الغاب بأسلوب استعراضي عبر العدوان الهمجي والاستغلال المادي والهيمنة السياسية.
٢- ممارسة الردع الإرهابي عبر علنية التنكيل الدموي مع التشريد لتخويف العامة والنخب والسلطات والدول.
٣- الاتفاقات الاستسلامية ونقضها وذلك بطرح مشاريع، مثل مؤتمر مدريد أو مسار أوسلو أو مبادرة بيروت، مما تضمّن قبول أصحاب الحق الأصليين بالفتات ثم منع عنهم الفتات أيضا، فلا جدوى من الوعود بتحصيل الحقوق حربا ولا سلما.
٤- نشر التيئيس والإحباط عبر الترويج لمزاعم استبدادية دولية من قبيل: هذا ما اتفقت عليه الشرعية الدولية؛ والواقع أنها قرارات دول معدودة تستخدم جهاز مجلس الأمن الدولي المنحاز بتشكيلته ونظام عمله، وهي قرارات تخالف القانون الدولي العام، ونصوصا أساسية في ميثاق الأمم المتحدة، حتى أصبح هذا الجهاز وسيلة للقمع وليس وسيلة لنشر الأمن.
٥- تطويع النخب والدول ودفعها تحت طائلة التهديد للخنوع والخضوع، ومن الوسائل الشنيعة لذلك إلى جانب ما يسمّونه عقوبات، مسلسل تقارير سنوية تصنعها دولة، عدوانية منذ نشأتها الأولى إلى اليوم، لتفرض نفسها دون مستند شرعي على إرادة الدول الأخرى، تحت عناوين الإرهاب والحريات والحقوق، وهي تقارير دون تأثير ذاتي فاعل، إنما تعتمد على سلوك المستهدفين بها، أي مسارعة أنظمة حكم في دول أخرى إلى الاعتراف بها وتقديم أسباب الطاعة بموجبها، بدلا من التكاتف والتناصر باتخاذ مواقف عملية مضادة، يكمل بعضها بعضا حتى تتحول إلى قوة مؤثرة، ولا تخضع لإملاءات أمريكية ورثت أسلوب الإملاءات العقدية الكنسية من العصر الوسيط في الغرب.
٦- غسيل الدماغ الجماعي وهو ما يصنعه غزو المفاهيم والمصطلحات إذ أصبحنا نردد بأنفسنا ما يطرحه العدو، فتتلقفه ألسنتنا وأقلامنا لنمارس مهمة غسيل الدماغ الجماعي للعامة، عندما نستخدم مثلا تعبير النزاع الإسرائيلي الفلسطيني بدلا عن قضية فلسطين والقضية المحورية للعرب والمسلمين وجنس الإنسان، وشبيه ذلك استخدامنا لتعابير أخرى، قديمة وحديثة، ابتدعوها وما أنزل الله بها من سلطان، مثل الشرق الأوسط، وتوصيفاته، وكلمة الإرهاب بمفهوم غربي، ومثل تعابير الأصوليين والجهاديين وما لحق بها، وجميع ذلك دون مرجعيات دولية نزيهة.
العمل الفردي ودور النخب
من السنن الاجتماعية والتاريخية أن أي حالة اجتماعية سلبية ضربت جذورها في المجتمع وتفشت مظاهرها في حياته، وأصبحت جزءا من الروتين المألوف، لا تتغير هكذا دفعة واحدة، وما عرف تاريخ البشرية تغييرات جذرية شاملة، عقدية وفكرية واجتماعية سلوكية، إلا عن طريق الرسل والأنبياء صلوات الله تعالى عليهم. فيما عدا ذلك كانت بداية التغييرات الاجتماعية الكبرى في تاريخ البشرية من صنع أفراد أو فئات محدودة العدد، هي ما انتشر حديثا تعبير النخب في وصفه. وتتكون النخب من خلال أعمال فردية متميز، تتكامل وتتعاون.
وأفراد الصفوة والنخبة المتميزون هم جزء من المجتمع، يتحركون به ومعه ومن خلاله، بالمقابل أصبحنا إذا سأل سائل في مثل أوضاعنا المزرية: أين المثقفون، وأين الأحرار والمفكرون والدعاة والقادة؟ قد يأتيه الجواب تسفيها له ولسؤاله، فنبقى في حلقة مفرغة حشرنا أنفسنا فيها حشرا.
وقد نردّد في بعض كتاباتنا الحديث عن نماذج تاريخية صنعت التغيير أو ساهمت فيه، ولكن يغيب عنا أو نغيّب عن أنفسنا طرح السؤال عمّا ينبني على ذلك الكلام من واجب وعمل، فالفاروق العادل لم يكن يتحدث عن العدالة بل يمارسها، كذلك مارس صلاح الدين القيادة، ومارس ابن تيمية والعز بن عبد السلام الجهر بالحق والمواجهة، ومارس ابن سينا والفارابي والزمخشري وسيبويه وأقرانُهم من السابقين واللاحقين الإبداع، كل في ميدانه، فلم يكتفوا برفعه شعارا، ولم يمضوا إلى احتكار ذلك الميدان كما لو كان بضاعة شخصية.
المشكلة ليست في وجود فئات تحمل اسم العلماء، أو الدعاة، أو المفكرين، أو المثقفين، أو عدم وجودها، بل إذا وجدت تلك الفئات وبقي المجتمع ضعيفا واهيا، فيعني ذلك أنه لم يتوافر الشرط الأساسي لتكون هذه التسميات في مكانها، وإن تشبثت بها تلك الفئات، والكلام هنا على التعميم لا يغفل عن الاستثناءات.
الأخذ بالأسباب قدر الطاقة
لا يقولنّ قائل تبريرا للقصور إن في بلادنا حكومات تمنع، ومخابرات تلاحق، وسجونا منتشرة، وهراوات ناشطة، وحرّاسا على الأمن الإسرائيلي أكثر من الأمن الفلسطيني والعربي والإسلامي، نعم جميع ذلك موجود، وينبغي التحرك رغم ذلك، بل بسبب وجوده على وجه التخصيص، فلو لم يكن موجودا لسقط جزء كبير من المهمة المطلوبة والملقاة على عاتق النخب بالذات على طريق النهوض بالأمة عموما.
كلما ازدادت السلبيات في أوضاعنا والعواقب في طريقنا ازدادت أهمية العمل المطلوب وازداد حجمه، أم أننا لا نريد أن نتحرك إلا عندما تكون الطريق مفروشة بالورود، وبعد أن تسقط العقبات من تلقاء نفسها؟
كذلك لا يقولنّ قائل بانعدام الإمكانات والوسائل أو ضعفها، فهذا القول وكثير من الاعتراضات المشابهة لا تفيد في البحث عن مخرج من القصور، مع التأكيد أنّ من يريد، يجد الطريق، ويجد الوسائل، وذاك جزء من عقيدتنا، مصداقا لقوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} -العنكبوت: ٦٩-
وأستودعكم الله وأستودعه أمتنا والنخب من بيننا ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب