التحرير بعد النكبة

التحرر المعنوي لتتحرر الأرض

تحليل

قد يختلف ما ينشره بعض الأقلام عن النكبة اليوم عن بعض ما كتبتْه من قبل، وقد يغلب على ما يُنشر تكرارُ ما كُتب من قبل، وقد يعتذر صاحب القلم مباشرة أو ضمنيا وهو ينشر ما ينشر أن ما يملكه يقتصر على الكلام، وأنه لا يملك صناعة القرار. أليس باستطاعة الأقلام، وعلى الأصح: أليس من واجب أصحابها، تحقيق نقلة حاسمة في طرح قضية فلسطين، بحيث تتحول الكلمات إلى تيار، والأفكار إلى أفعال؟

كم من المداد تناول النكبة في العقود الماضية من ألف زاوية وزاوية، عبر منظور قومي وقطري وعربي وفلسطيني وإسلامي وعلماني، مع التركيز على الشعوب أو الحكام، وعلى المفكرين والعلماء أو المقاومين والشهداء، أو على مشكلات التخلف والجهل والتجزئة والفساد، ولا يزال بين أيدينا مثل ذلك مما يكتب وينشر الآن وقد لا يكون فيه جديد إلا قليلا.

كم من المداد تحدث عما صنعت بريطانيا وبلفورها، وأمريكا وأسلحتها، والصهيونية وتنظيماتها، ولا يزال بين أيدينا مثل ذلك وما يشابهه دون أن يزيد في معلوماتنا شيئا يستحق الذكر.

كم من المداد تحدث عن الانتفاضات والثورات الفلسطينية والمذابح الإرهابية الإسرائيلية وموجات التشريد المتعاقبة ومخططات التهويد المتتابعة، ولا يزال بين أيدينا الآن المزيد وما أضيف عبر حياة جيلين وأكثر.

وإن للتاريخ في الأصل ميادينه، في المدارس والجامعات ومراكز البحوث، وحتى في إبداعات القصص التاريخي والفنون المختلفة؛ وإن للفكر والإعلام والإبداع دورا آخر يتركز على مواكبة ما يجري باستمرار فلا يكاد يكون للتاريخ مدخل فيه إلا بقدر ما يتطلبه دعم المواكبة الآنية بخلفية معلوماتية.

أما القضية، قضية فلسطين الآن، فلا يحرّك مجرى أحداثها ليكون مستقبلها مستقبل التحرير وليس اجترار ما مضى من نكبات، إلا ما يرتبط مباشرة بكيفية صناعة الحدث، وإمكانات صناعته، وسبل توجيهه، فهل نصنع ذلك بالقدر الكافي والأسلوب القويم في حديثنا السنوي عن النكبة، أو إلى جانبه، أو حتى فيما نطرح ما بين مواعيد حلول المناسبات السنوية؟

*   *   *

ألا نرصد من خلال تجدد الحديث أو تصعيد نسبة الكلام عن النكبة، لا سيما مع حلول ذكراها السنوية، أننا نساهم من حيث لا نريد في الحفاظ على استمرارية النكبة، وربما في دعم حملات التيئيس والتشكيك لمضاعفة انتشار الوهم باستحالة تجاوزها والخروج من عصر النكبات نهائيا؟

ألا نرصد من خلال البحث المتكرر عن صور النكبة وحكاياتها المأساوية، لا سيما ما كان منها قبل عقود، أننا نوجه أبصار جيل المستقبل -إن كان يتابع ما نقدم له بأمل ألا يكرر ما صنعنا من نكبات- إلى نقطة ثابتة، أوقفناه عندها، لأننا أوقفنا من حيث لا نريد عجلة التاريخ عندها، فكأن قضية فلسطين المصيرية المحورية المشتركة المعاصرة هي فقط قضية تلك اللحظات الآنية التاريخية لمشاهد وقوع النكبات تحديدا؟

ألا نرصد من خلال تجديد صيغ توجيه الاتهام -بحق في الأعمّ الأغلب- إلى المسؤولين عن صناعة النكبة الأولى وما تلاها من نكبات، وعن استمرار آثارها وتفاقم عواقبها، أننا نضاعف من حيث لا نريد الخلل القائم في رؤية المشهد المعاصر، لا سيما من حيث شخوص الأبصار نحو جوانبه القاتمة التي نعرفها جميعا، والغفلة عن جوانبه الأخرى المضيئة الشاهدة على وجود من تجاوز النكبة، وتجاوز الأغلال التاريخية، وتجاوز الحواجز والعراقيل الحالية، وسلوك الطريق باتجاه التحرير؟

*   *   *

إن النكبة الكبرى سنة ١٩٤٨م في تاريخ فلسطين تاريخ مضى، وإن النكبة العسكرية الماحقة سنة ١٩٦٧م في تاريخ فلسطين تاريخ مضى، وإن نكبة كامب ديفيد الانتحارية سنة ١٩٧٨م في تاريخ فلسطين تاريخ مضى، ومهما كان الحديث عن التاريخ، عن الأحداث الماضية، عن أسبابها ومجراها وعواقبها، ضروريا ومفروضا، فإن الاستفادة منه رهن بطرحه تاريخا، ووضعه في إطار يمثل جزءا محدودا من مشهد القضية المصيرية، أما الجزء الأعظم والأكبر والأهم، فهو ما نعايشه الآن، وما يجب صنعه في قادم الأيام، وليس في استعراض ما مضى منها.

قضية فلسطين تاريخيا قضية نكبات وقضية فلسطين اليوم قضية مقاومة وتحرير.

قضية فلسطين تاريخيا قضية اغتصاب وتهويد، وهي اليوم قضية صمود وتغيير.

قضية فلسطين تاريخيا قضية مؤامرة كبرى بدأت سرا وسقط فيها كثير من صانعي القرار آنذاك وغابوا وانتهى أمرهم، وهي اليوم قضية تصفية علنية جارية يساهم فيها كثير من صانعي القرار الآن، وهؤلاء لم يغيبوا بعد، ولم ينته أمرهم، وقضية صمود ومقاومة بدأ بها فريق من جيل المستقبل، وهؤلاء ساروا على الطريق الموصلة إلى الهدف قطعا، إنما يحدد موعد التحرير ما يجدونه من رفد، يمنع الانفراد بهم في الميدان.

قضية فلسطين تاريخيا قضية الشريف حسين والملك عبد الله ومن عاصرهما وعاصر النكبة الأولى، ومن تابعهما على طريق النكبات، واعيا أو غير واعٍ وقاصدا أو غير قاصد، وقضية فلسطين اليوم قضية جيل جديد بدأ يتململ ويتحرك، ويأبى أن تسوقه التبعيات لأمريكا وسواها إلى مزيد من النكبات والهزائم العسكرية والتخلف على كل صعيد.

قضية فلسطين تاريخيا قضية الحسيني والقسام والقسطل ودير ياسين، وقضية فلسطين اليوم قضية البطولات المذهلة في مواجهة حصار غزة ومواجهة الحواجز والجدار والمعتقلات في الضفة وسوى ذلك مما يراد به اغتيال الشعب، وقضية الحملات الشعبية المتصاعدة في مواجهة المستعمرات والحفريات وهدم المساكن، وسوى ذلك مما يراد به اغتيال الأرض، وقضية الوعي الجماهيري المتصاعد في مواجهة الحرب على حماس وأخواتها ومواجهة تمزيق فتح وأخواتها، وسوى ذلك مما يراد به اغتيال المقاومة.

*   *   *

ليست أوضاع الجيل المعاصر، ولا أوضاع بلادنا وشعوبنا وحكوماتنا وعالمنا وعصرنا مشابهة لما كان عند وقوع النكبات الماضية، وليست سبل العمل الآن، ووسائل التحرير الآن، وإمكانات التحرك الآن، قابلة للتحديد من خلال زيادة الحديث عما كان في الماضي القريب والبعيد، ما لم يقتصر ذلك الحديث على نسبة مئوية محدودة، تنحصر فيما نحتاج إليه الآن، أما الأهم فيما نحتاج إليه فهو ما يجب أن نطرح الآن أكثر من سواه، بأسلوب توظيف الكلمات لتعميم سبل تحقيق الإنجازات الحالية، الممكنة والواجبة، وبيان الطرق القويمة نحو غايات ثابتة وأهداف مرحلية، مع التقويم المتجدد لما يتحقق على أرض الواقع الآن، لتجنب سلبياته فيما يجب صنعه وتحقيقه على أرض الواقع في أيام تاليات.

يجب أن نخرج بذكرى النكبة من أغلال النكبة على أحاسيسنا ووعينا المعرفي وعلى أقلامنا واستشراف القادم من الأحداث.

يجب أن نتحرر نحن من النكبة لتتحرر الأرض ويتحرر الشعب وتتحرر الإرادة ويتحرر الإنسان، ليتحرر العمل لقضية فلسطين من الأغلال الذاتية والخارجية، ورؤية آفاقها الحاضرة والمستقبلية.

*   *   *

لا يعني ما سبق إطلاقا العزوف عن طرح موضوع النكبة بحد ذاته، بل يعني وجوب أن يرتدي الطرح رداء آخر يفرضه ما نرصده على أرض الواقع في اتجاه التحرر من النكبة وتحرير الإرادة والإنسان ليتحقق هدف التحرير.

إن كل حديث في مقال أو إنجاز في إبداع عن شواهد مأساوية تاريخية يجب أن يوصل مَن يتحدث ويبدع ويوصل من يتابع ويتأثر إلى شواهد من واقع المقاومة المعاصر وإضاءات تكشف عن طريق التحرير ودوافع تحرّك المزيد من الطاقات على هذا الطريق.

وإن كل بيان لمدى العقم السياسي أو التخلف السياسي أو الانحراف السياسي في مجرى قضية فلسطين من قبل وقوع النكبة الأولى إلى الآن، يجب أن يقترن بالطرح المنهجي الموضوعي النظري للصيغ السياسية القويمة التي يجب الرجوع إليها، والسبل الواقعية ليتحقق الرجوع العملي إليها فعلا لا كلاما.

وإن كل إدانة واجبة للتشرذم والنزاع ولتوظيف فريق لمعاداة فريق وحراسة أمن العدو وسلامته، يجب أن تقترن بحملة فعالة لإزالة أسباب التشرذم والنزاع، وإيجاد الشروط الموضوعية للحيلولة دون تفريغ ساحة المواجهة الحقيقية من الجهود المشتركة التي ترفع من مستواها وتقرّب من تحقيق أهدافها.

*   *   *

خطورة النكبة الكبرى في تاريخ قضية فلسطين والمنطقة لا تكمن في وقوعها قدر ما تكمن في ديمومتها واستمرارها وما نوجده من حيث نريد أو لا نريد من أسباب تفريخها لمزيد من النكبات، وهذا ما ينبغي أن يشهد التحول الجذري الحقيقي في التعامل مع النكبة، سواء عند استرجاع أحداثها في مناسبة سنوية، أو خارج هذا النطاق على مدار العام، بما يشمل مختلف الميادين التي لن تتبدل فيها معطيات صناعة النكبات، إلا من خلال إيجاد البدائل العملية لصناعة الانتصارات.

إن الإبقاء على جذوة الجوانب المأساوية لذكرى النكبة مشتعلة في القلوب والأذهان، محركة للعزائم والطاقات، لا يكتمل مفعوله جيلا بعد جيل، وعاما بعد عام، إلا من خلال إيقاد جذوة الجوانب العملية المستمدة من الواقع المتبدل عبر العقود الماضية في اتجاه مزيد من الصمود، ومزيد من المقاومة، ومزيد من الوعي والتفاعل الجماهيري، ومزيد من تعبئة الطاقات، لتحقيق هدف التحرير المشروع الأصيل.

هذا ما شهده التاريخ مرارا ونردد الحديث عنه والاستشهاد به من حقب قديمة، ما بين اقتحام همجية المغول لبغداد واقتحام الحملات الصليبية للقدس، وبين أيام عين جالوت وحطين وتحرير القدس.

وهذا ما يجب العمل من أجله الآن، لتقرأ الأجيال القادمة ما تكتبه صفحات التاريخ عن تحرير القدس والأرض المباركة وتحرير المنطقة وليس ما كتبته عن النكبات السوداء فقط.

آنذاك نحقق النقلة النوعية المرجوة من حالة تأبيد أغلال النكبة إلى تكسيرها والتحرر من سلبياتها، ومن حالة إحياء ذكرى النكبة للإبقاء عليها إلى حالة إحياء الجهود المفروضة والضرورية لحلول يوم ذكرى التحرير مكان يوم ذكرى النكبة.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

 

التاريخجيل التغييرفلسطيننكبة ١٩٤٨