دراسة
المحتوى:
مقدمة
معضلة المصطلح
معضلة الاختلافات بين “أقليات مسلمة”
من آثار الاختلاف على أرض الواقع
خاتمة
هوامش
مقدمة
تساؤلات مبدئية وخطوط عامة
منذ قرون لم ينقطع طرح إشكاليات موضوع “الأقليات” من مختلف زوايا النظر، فكرا تنظيريا وواقعا تطبيقيا، ومن المعروف تاريخيا استناد كثير من قرارات الحرب والسلم في حقبة انتشار الاستعمار، التقليدي والاستيطاني، إلى ذريعة “حماية الأقليات” الأقرب – عقديا في غالب الحالات – إلى من كان يطرحها من الدوائر الاستعمارية، ابتداء من التبشيرية مرورا بالسياسية والديبلوماسية انتهاء بالحملات العسكرية.
إنما لا يكفي استحضار العامل التاريخي عند طرح موضوع “أقليات المسلمين” في الوقت الحاضر، بل ينبغي مراعاة معطيات الواقع القائم واستشراف ما ينبغي صنعه مستقبلا، فقد تبدلت المعطيات عما كانت عليه قبل عقود وليس قبل قرون فحسب، لا سيما في معادلات العوامل المؤثرة على صناعة القرار والحدث، عقديا واقتصاديا وسياسيا، واجتماعيا وفكريا وأدبيا، ومن ميادين هذا التبدّل فيما يخص الموضوع المطروح:
أولا: تداخل “محدّدات” التمييز بين أقلية وأخرى أو أقلية وأكثرية.
ثانيا: اضمحلال مفعول المسافات والتواصل ومفعول الحدود والحواجز وبالتالي توسع نطاق تداخل التداعيات المترتبة على الأحداث والاجراءات، ضمن حدود البلد الواحد أو عبر العوائق الفاصلة – سياسيا أو حضاريا – بين منطقة جغرافية وأخرى.
ثالثا: تتابع ثورات تقنية التواصل وأدوات التأثير، وما يواكبها من تتابع الفواصل الزمنية لتأريخ البدايات والنهايات بين حقبة وأخرى من حقب التغيير التاريخية، وبالتالي تناقصها فربما تتقلص قريبا إلى عقود معدودة بعد امتدادها لمئات السنين في عصر الامبراطوريات القديمة.
رابعا: ازدياد أهمية التخصصات والمؤهلات والكفاءات وتشبيكها وتكاملها للتعامل الهادف مع التحديات المرتبطة بأي عملية تطوير أو تغيير معقدة معاصرة، وبالتالي ازدياد أهمية التخصص والتأهيل الفردي عموما.
هذه أمثلة معدودة على ما يعطي أهمية خاصة للدور الحالي والمستقبلي المرجو وكذلك للتأهّل له على مستوى ما نسميه “أقليات مسلمة” وترجيح قابلية أدائها مهام كبرى وفاعلة على صعيد طرح الأفكار والآليات العملية في مسارات التغيير، باعتبار أن نسبة عالية من أفراد أقليات المسلمين قد ولدوا ونشؤوا خارج البلدان ذات الغالبية من المسلمين، فهم يحملون، أو يفترض أنهم يحملون، خصائص عقدية واجتماعية وفكرية من بوتقتين حضاريتين في وقت واحد. وانطلاقا من هذا الافتراض – وربما التمنّي – يرجح أن تشهد المرحلة المقبلة مزيدا من التفاعلات الإيجابية والسلبية لتتمخض عن مسار تغييري حضاري مستقبلي، لا يمكن استشراف ملامحه بوضوح في اللحظة التاريخية الآنية، وهذا أمر طبيعي في مسارات تعاقب الحضارات البشرية.
وفيما سبق إشارة مسبقة إلى أن موضوع البحث المطروح في العنوان أكبر من قابلية استيفائه في دراسة أو بضع دراسات، فلا يراد هنا أكثر من طرح خطوط عريضة للمطلوب في ثلاث فقرات تلي هذه المقدمة:
الفقرة الأولى: معضلة المصطلح
دون الاطلاع المسبق على ما تطرحه بشأن المصطلح مشاركات أخرى تحت العنوان المشترك “مسلمو الأطراف.. تحديات البقاء والتأثير” في التقرير الارتيادي حيث تنشر هذه الدراسة، لا بد من التنويه إلى عناوين كبرى للمقصود بتعبير “أقليات مسلمة” ومدى توافق ما ينتشر حوله في الأدبيات العربية الإسلامية تخصيصا، مع ما يوجد من معطيات على أرض الواقع، هذا علاوة على وجود أطروحات ذات منطلقات أخرى، فكرية وسياسية، بشأن تعبير “أقليات” وتداوله في بلدان غربية كنماذج لبلدان ذات غالبيات سكانية من غير المسلمين.
الفقرة الثانية: معضلة الاختلافات بين “أقليات مسلمة”
هنا يطرح التساؤل عن اختلافات قائمة بين غالبية ما نعطيه على سبيل التعميم وصف “أقليات مسلمة” وهي اختلافات من حيث نوعية الأقليات ونشأتها وتأثرها بالوسط المجتمعي لوجودها قطريا أو مناطقيا في نطاق غالبيات من غير المسلمين، وبالتالي التساؤل عن مفعول تعدد زوايا النظر في رؤية هذه الاختلافات والموقف منها، عقديا، دعويا، فكريا، قوميا، قطريا، واقعيا، سياسيا، اجتماعيا، اقتصاديا.. وهكذا.
الفقرة الثالثة: من آثار الاختلاف على أرض الواقع
يبني الكلام في هذه الفقرة على الفقرة السابقة ويربط تعدّد زوايا النظر، الدعوية مثلا أو السياسية مثلا آخر، إلى الأقليات وعناصر الاختلاف بينها، بتوقعات مستقبلية مرجوة منها، وبالتالي يطرح السؤال عن الإشكاليات التي ينبغي علاجها وكيف يتم ذلك.
خاتمة: استنتاجات وتوصيات
يفترض أن تشمل الاستنتاجات صياغة بعض محددات الدور المنتظر أو الأدوار المنتظرة من “أقليات مسلمة”، وربط ذلك بعوامل ترتبط بسلوك الأقليات نفسها طريقا مشتركا أو طرقا متعددة – وهذا أرجح – حسب خياراتها، بما يعطيها فاعلية التأثير أو يضعف من شأنها. والمطلوب تشكيل إطار عام للتوصيات بخطوطها العريضة، مع مراعاة عدم تجاوز مفعول الزمن من حيث الحفاظ على قابلية تبدل نوعية الوسائل والأدوات. بتعبير أوضح: لا بد من تجنب التفاصيل في التوصيات والتركيز على المعايير المناسبة لاستخلاص مناهج وآليات عمل في نطاق تأثير متبادل يشهده واقع قضية “الأقليات المسلمة” مع الأمل في توجيه أفضل لمسارات تطور أوضاعها وخصائصها وبالتالي تطور تأثيرها.
هذا.. وليس مجهولا أن التعامل البحثي مع تعبير “أقليات” وفق الأدبيات والكتابات باللغة العربية والمنطلق العقدي الإسلامي / الدعوي يختلف جذريا عن طرح الموضوع ضمن تضاريس قائمة في واقع الأرضية الفكرية والسياسية والاجتماعية والقانونية لوجود الأقليات والتعامل معها، وهذا أيضا مما يستدعي التركيز على خطوط عريضة بصدد “نوعية” الاختلافات موضوع البحث، وتجنب الخوض بالتفصيل في ماهيتها وفروعها.
معضلة المصطلح
أين تكمن، وهل يمكن حلها، أم ينبغي تجاوزها
في دراسة بعنوان “مشكلات الأقليات المسلمة في الغرب” يقول أحمد عبد الغني محمود عبد الغني (مصطلح الأقلية: هي مجموعة من سكان دولة أو إقليم أو قطر ما يختلفون عن غالبية سكان تلك الدولة بخاصية من الخاصيات المتمثلة في العرق أو في الثقافة أو في الدين ويحاولون بكل الإمكانيات أن يحافظوا عليها لكيلا تذوب في خاصيات الأغلبية(١).
الواقع أنه توجد دراسات ونصوص عديدة تتناول موضوع الأقليات، بما في ذلك النصوص القانونية الدولية لحماية حقوق الأقليات، ولكن لا يوجد تعريف اصطلاحي للكلمة من خلال دراسات علمية تتوافق على المفهوم تخصصا، أو تحدده بصورة ملزمة في التعامل السياسي والحقوقي دوليا.
محددات مستحدثة
النص المقتبس المذكور أعلاه متميز الصياغة بين نصوص مشابهة عديدة فيما نشر وينشر باللغة العربية، ولكن لا يكتسب منزلة تحديد المصطلح، بل يقرر في أقصى الحالات معنى لغويا وتعميميا متعارفا عليه، وإن اعتمد على محدد ثابت هو النسب الرقمية للسكان، ولكن تغيب قوة التعريف اصطلاحيا من خلال شرط لا يخضع لمقتضيات الاختبار العلمي، ففي صياغته كلمات ذات معان نسبية لا توجد محددات لها مثل: “يحاولون” و”بكل الإمكانيات” و”لكيلا تذوب”.
شبيه ذلك نجده في كتابات غربية أيضا عند محاولة تعريف كلمة “أقلية”، إذ تنطلق جميعا من المحدد الكمّي اللغوي لكلمة أقلية، أي من مقارنة التعداد السكاني بين أقلية وأكثرية، وهذا ما يسري على استخدام الكلمة في ميدان السياسة والأحزاب والسلطة في بلدان ديمقراطية، أما من حيث العناصر المحددة اصطلاحيا للمفهوم، فتعتمد أطروحات تعريف كلمة أقلية عموما على العناصر التقليدية للتمايز السكاني، وهي العرق واللغة والدين والجغرافيا، إنما لم تعد الكتابات الغربية تتوقف عند هذه المحددات، إذ تذكر أيضا عناصر مستحدثة أخرى تنبثق من التمايز في القيم الأخلاقية مثل أحرار العالم، والأوضاع الاجتماعية مثل أقلية المسنين، وكذلك التمايز في التنوع الجنسي بمعنى العلاقات والممارسات الجنسية وهي ما انتشر في إطارها تعبير المثليين على سبيل المثال ليكون بديلا عن اللواط والسحاق (٢).
لا يمكن تجاهل هذه المعطيات وما يترتب عليها فكريا واجتماعيا وسلوكيا وقانونيا عند الحديث حول “أقليات مسلمة” وأدوار ما منتظرة منها، وذلك في غياب تعريف اصطلاحي للكلمة، وسيبقى الحديث بذلك حديثا حول ما هو “متعارف” عليه على سبيل التعميم.
محددات متداخلة
في الوقت الحاضر يدور الحديث عن أقليات من غير المسلمين في بلدان ذات غالبية سكانية من المسلمين،
فيأتي غالبا في نطاق التمييز بين أقلية وأخرى وبلد وآخر، مثل الإيزيديين في العراق والأقباط في مصر واليهود في المغرب، وبالمقابل يختلط عنصر التمييز العقدي بسواه كالعرقي واللغوي عند الحديث عن مسلمين في بلدان ذات غالبية سكانية من غير المسلمين، مثل الروهينجا في بورما / ميانمار، أو الإيجور، وهم جزء من مسلمي الصين يمثلون غالبية السكان في سينجيانج (تركستان الشرقية) ضمن الحدود الرسمية للصين.
يسري شبيه ذلك على الوجود السكاني للمسلمين في البلدان الغربية، كما هو الحال مع الحديث عن الأتراك في ألمانيا وهم نسبة عالية من المسلمين فيها. هنا يظهر جانب آخر من معضلة تداخل المحددات في تصنيف الأقليات المسلمة اصطلاحيا، فالحديث يدور حول المسلمين الأتراك، من حيث الجنسية، والمسلمين الأتراك والأكراد وغيرهم من حيث العرق، كما يدور حول الألمان من ذوي الأصل التركي وفق التجنس والولادة، بالإضافة إلى تقسيمات أخرى، ومع مراعاة وجود فئات عديدة من المسلمين من بلدان مجاورة بتوجهات عقدية متباينة، يظهر حجم معضلة الانطلاق في أي بحث منهجي من تعبير أقلية مسلمة في ألمانيا كمثال، ناهيك عن أوروبا، كما لو أنها كتلة متجانسة، وما هي متجانسة.
في هذا الإطار لغياب أرضية ثابتة ومحددات واضحة لكلمة “أقلية مسلمة” اصطلاحيا لا يمكن الحديث منهجيا عن دور مشترك لأقلية “مسلمة” عقديا، فهي في الواقع الملموس “أقليات” متعددة ومتباينة بالمنظور العرقي والرسمي (الجنسية) مع ما ينبثق عن ذلك حقوقيا وثقافيا.
محددات متناقضة
يضاف إلى ذلك وجود تباين كبير بين دولة وأخرى حول تعبير “أقلية مسلمة” من حيث ما يعنيه وصف “المسلمة” من الناحية العقدية الإسلامية المحضة، حيث يلعب العامل المذهبي بين السنة والشيعة والعلوية وغيرهم دوره، فضلا عن وجود فئات تعتبر نفسها – أو كانت تعتبر نفسها لفترة طويلة – منبثقة عن الإسلام وتصف نفسها بالمسلمة، مثل البهائيين والقاديانيين، وينكر عليها ذلك جمهرة علماء السنة، ولا يستهان بأثر ذلك عند التعامل الرسمي والتشريعي التقنيني مع الإسلام والمسلمين من جانب حكومة غربية في ميادين التربية والتعليم مثلا.
هذا علاوة على أن درجات الالتزام بالإسلام عند “الأقليات المسلمة” تتفاوت ما بين التعنت المطلق وبين التسييب على حافة التخلي عن أي حكم أو مظهر من أحكام الدين ومظاهر التدين (٣).
ودون مزيد من التفصيل تحسن الإشارة إلى توظيف بعض المواصفات حديثا بأساليب ساهمت في تجزئة “الأقلية” أيضا مثل الحديث عن السلفيين وتقسيماتهم، والمتطرفين ودرجات تطرفهم، والتنظيمات الحركية والدعوية والخيرية وغيرها، إنما يكفي ما سبق ذكره كنماذج معدودة لبيان بعض المعطيات الواقعية الأساسية على صعيد المفهوم الاصطلاحي وبالتالي بيان العقبات التي تواجه البحث النظري في شؤون “الأقليات المسلمة” مع تعميم هذا الوصف، ناهيك عن استخلاص توصيات عملية للتطبيق الفعلي.
معضلة الاختلافات بين “أقليات مسلمة”
محددات لتكوين الاختلافات وواقعها
لا يوجد تجانس في واقع فئات سكانية كبرى رغم تعميم الحديث عنها تحت عناوين من قبيل “الغربيين” أو “المسيحيين” أو “الأفارقة” وهكذا، كذلك يظهر للعيان عند التأمل في واقع أقليات المسلمين عالميا عدم وجود تجانس عقدي أو عرقي أو لغوي أو اجتماعي أو تجانس من حيث التعامل معها قانونيا وحقوقيا وثقافيا وحتى إنسانيا.
لهذا لا يمكن بالمعايير البحثية العلمية معالجة السؤال عن كيفية التعامل مع “الأقليات”، وتزداد الإشكالية تعقيدا عبر تعميم الهدف من دراسة أوضاعها، لا سيما عند تركيز صياغة الهدف على جانب التزام الإسلام وأداء واجب الدعوة. فأي توصية – ولتكن مثلا: تأمين مراجع ومصادر إسلامية – تتفرع عنها إشكاليات عديدة، من حيث اللغة والانتماء المذهبي والمستوى الثقافي والتعليمي، ويتبع أن أي توصية – على افتراض التمكن من إحكام صياغتها – لا تجد معطيات واقعية كافية للتطبيق، إلا على “أقلية من الأقلية” أي نسبة محدودة من أي أقلية مسلمة وفق استقصاء واقعها.
توصيف الأقليات وتعميم التقديرات
لم ينقطع منذ عقود عديدة مسلسل التكرار في محتويات الدراسات المنشورة حول أوضاع الأقليات المسلمة وما تحتاج إليه، ولم يخرج جديدها عن أقدمها إلا نادرا، ومن أقدمها مثلا ما نشره المؤرخ محمود شاكر في أكثر من سلسلة كتيبات عن البلدان الإسلامية والمسلمين ثم في كتاب “التاريخ المعاصر.. الأقليات المسلمة” في أحد مجلدات موسوعته “التاريخ الإسلامي” الصادرة في تسعينات القرن الميلادي العشرين عن “المكتب الإسلامي” في بيروت ودمشق وعمان.
كما انعقدت مؤتمرات عديدة للغرض نفسه وربما كان أحدثها “أوضاع الأقليات المسلمة حول العالم تحت المجهر، في اسطنبول، منتصف أيار/ مايو ٢٠١٨م (٤)، ومن قبل “ملتقى قيادات الأقليات الإسلامية” الذي انعقد في أواخر آذار / مارس ٢٠١٣م في باريس (٥)، بالإضافة إلى مؤتمرات سابقة كالتي كانت تنظمها رابطة العالم الإسلامي والندوة العالمية للشباب الإسلامي، وقد انتشر أيضا عدد من الدراسات حول الاحتياجات “الفقهية” للمسلمين خارج البلدان ذات الغالبية السكانية الإسلامية، لعل من أشهرها كتاب “في فقه الأقليات المسلمة” ليوسف القرضاوي من عام ٢٠٠١م، ومنها “من فقه الأقليات المسلمة” بقلم خالد محمد عبد القادر من عام ١٩٩٧م، ولعل من أفضل ما جمع بين الفكر والواقع بصدد ذلك محاضرة “فقه الأقليات المسلمة بين فقه الاندماج وفقه العزلة” للدكتورة نادية مصطفى (٦).
رغم وفرة الدراسات والمؤتمرات في العقود الماضية، وبالتالي وفرة الاستنتاجات والتوصيات يمكن القول عموما إن أوضاع الأقليات المسلمة من حيث ما تتعرض له من أخطار وضغوط، ناهيك عن هدف تحسين تلك الأوضاع لأداء أدوار إيجابية، لم تتغير نحو الأفضل إلا بصورة محدودة، وهو تحسن لم يكن بالضرورة من صنع هذه الدراسات.. فأين الخلل؟
نتحدث عن “أقليات مسلمة” ونرصد عدم وجود إحصاءات رسمية ببيانات واضحة حول المسلمين في البلدان الغربية، الأحرص من سواها عادة على منهجية البيانات الإحصائية أساسا للدراسات والبحوث والتشريعات التقنينية، ومن أسباب ذلك أن معظم الدول القائمة في الغرب تتجنب من منطلق علماني لمفهوم حرية المعتقد، ذكر الديانة في الهوية، أو حصر تعداد معتنقي أي ديانة رسميا عند إجراء الإحصاءات السكانية الدورية.
كذلك فإن الجهات التي عملت في الغرب تحت عناوين إسلامية متعددة، لم تكن متهيئة موضوعيا للقيام بدراسات إحصائية حول المسلمين المستهدفين بأنشطتها عادة.
بغض النظر عن التعليلات تبقى الحصيلة واحدة، وهي غياب مجرد ذكر رقم يحدد عدد “المسلمين” بصورة علمية منهجية ومضمونة، وبالتالي غياب ذكر مواصفات فئاتهم المتعددة، من نواحي المذاهب ودرجات الالتزام عقديا ثم الانتماء القومي ما بين المواليد ومعتنقي الإسلام من أهل البلد المعني وبين الوافدين وأولادهم، فضلا عن غياب الأرقام التفصيلية عن وقائع مستجدة مع ظواهر التجنس وموجات الهجرة والتشريد وغيرها.
عندما يغيب تعداد الأقلية إحصائيا تحت توصيفها الشمولي من منطلق إسلامي دعوي: “المسلمة”، يغيب تلقائيا توصيف منهجي لتفرعها إلى أقسام عديدة على خلفية الاختلافات القائمة بينها، ويسري شبيه ذلك على عوامل الاختلاف عموما، أي العوامل الناشئة نتيجة الدراسة والتخصص مثلا أو العمل والوضع الاجتماعي مثلا آخر، أو تفاوت نسب فئات الأعمار ما بين الطفولة حتى سن التقاعد والشيخوخة مثلا ثالثا. جميع ذلك متروك للتقديرات، ولا يستهان بقيمة دراسات لجأت إلى التقديرات، ولكن لا يستهان أيضا بالفارق بين استنتاجات وتوصيات تعتمد على إحصاء متكامل الأركان بكلياته وفروعه، وتلك التي تعتمد مثلا على “استفتاء” عينة من السكان بنتائج تتضمن نسبة ما من الخطأ، ناهيك عما يطرح من منطلق تقديرات أقرب إلى تمنيات من يطرحها وليس إلى ما يقوم على أرض الواقع.
من الخطورة بمكان في أي دراسة الانزلاق إلى وضع لباس البحث المنهجي على أطروحات تنبثق عن تقديرات عامة وتعود إلى اختلاف التوجهات الفكرية والسياسية بين من يقوم على دراسات، أو على ترويج نتائج بعضها على حساب سواها.
من تلك التوجهات مثلا ما يؤدي إليه حرص اليمين المتطرف في الغرب على تبنّي أرقام مرتفعة حول أعداد المسلمين ونسبهم، الآن ومستقبلا، وتوظيف ذلك في حملات التخويف من “العامل السكاني / الديموجرافي” على هوية البلدان الغربية، وبالتالي ما يخدم نشر مشاعر المخاوف والعداء تجاه المسلمين تحت عنوان مهاجرين ولاجئين، مع تجاهل النسبة العالية لارتفاع معدلات من أصبحوا رسميا جزءا من البنية السكانية. وهنا لا يخفى ما يعنيه تسرّع كثير من المسلمين في التعامل مع تلك الأطروحات، إذ يساهمون في الترويج لما يصنعه المتطرفون تجاههم، عندما يتداولون بدوافع مختلفة الأرقام المبالغ فيها غالبا، ولا تخفى إشكالية إضافية بمنزلة المعضلة المعيقة للبحث عن توصيات عملية في صالح تطوير أوضاع “الأقلية المسلمة” (٧).
نماذج لمحددات أساسية لنشأة الاختلافات
حرصا على البقاء في حدود ما يمكّن من الإحاطة بالموضوع دون استغراق في التفاصيل أو تثبيت نتائج قد يسبقها الزمن بعد نشرها بفترة وجيزة، يكفي ذكر نماذج عن عوامل أو محددات أساسية مما يصنع الاختلافات المعنية وآثارها، ليمكن رفد ذلك لاحقا بمحاولة بيان الكيفية الأجدى لطريقة استخلاص نوعية الأدوار الواقعية القابلة للتنفيذ من جانب “الأقليات المسلمة” حيث توجد.
ومن المعروف أن أوضاع ما انتشر وصفه بالأقليات المسلمة في آسيا وإفريقية وحتى أمريكا الجنوبية، تختلف عنها في البلدان الغربية عموما، إنما تستهدف هذه الفقرة تسهيل الحديث عبر التركيز على قواسم مشتركة من البلدان الغربية تتناول ما يتمحور حوله الاختلافات بين فئات المسلمين المصنفين في الكتابات الإسلامية المنطلق بشأن أقليات مسلمة في بلدان ذات غالبيات سكانية من غير المسلمين.
المحدد الأول:
تباين المعطيات التاريخية التي أوصلت إلى تكوين فئة من السكان المسلمين في هذا البلد أو ذاك، فالفارق كبير بين:
١- بلدان نشأ حق المواطنة فيها تاريخيا عبر استيطان النسبة الأعظم من “الوافدين” عبر موجات الهجرة من الخارج، كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا..
٢- وبلدان شهدت هجرة المسلمين إليها نتيجة سياسات وممارسات استعمارية وعمليات تهجير كبريطانيا وفرنسا..
٣- وبلدان أقدمت على حملات منظمة لجلب “الأجانب” ومنهم المسلمون لبناء نفسها اقتصاديا كألمانيا والنمسا..
٤- وبلدان شهدت وجودا إسلاميا تاريخيا لم ينقطع أثره عبر القرون المتتالية كدول شمال حوض البحر الأبيض المتوسط ودول البلقان.
المحدد الثاني:
اختلاف الأوضاع الذاتية في كل بلد عن سواه في حقبة تكوين الكتل السكانية للأقليات المسلمة، ومن ذلك:
١- حقبة تاريخية تكوينية مبكرة نسبيا في أمريكا الشمالية ضمن مسار اندماج اجتماعي وثقافي تزامن مع بناء دول اتحادية..
٢- مسار القوة القاهرة لترسيخ الشيوعية اللينينية والستالينية في شرق أوروبا والجزء الآسيوي من الاتحاد السوفييتي مع اغتصاب بلدان ذات غالبيات مسلمة في وسط آسيا ومنطقة القوقاز..
٣- سواد حقبة تاريخية أوروبية مضطربة أثناء الحربين العالميتين وبعدهما، شهدت انحسار الانتشار الاستعماري في بعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا وفرنسا، كما شهدت تجديد البناء الاجتماعي والاقتصادي فيهما وفي سواهما مثل ألمانيا وإيطاليا.
وفي إطار كل حالة من هذه الحالات نشأت اختلافات على صعيد الوافدين من المسلمين، ما بين معطيات التميز والاندماج ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وحقوقيا وقانونيا.
المحدد الثالث:
تفاوت المعدلات ذات العلاقة بتعدد الانتماءات الأخرى إلى جانب الانتماء العقدي في تكوين الأقليات المسلمة، وهو ما يظهر تأثيره كمثال في الفوارق بين واقع المسلمين في فرنسا وبلجيكا ومعظمهم من شمال إفريقية ومن الناطقين بالفرنسية أكثر من العربية، وواقع المسلمين في هولندا وأغلبهم من جنوب شرق آسيا، وفي ألمانيا وأغلبهم من تركيا.. وهكذا.
المحدد الرابع:
التفاوت الثقافي والاجتماعي بين بلد وآخر في أساس تكوين أقلية مسلمة فيه، فعلاوة على نسبة محدودة من المسلمين تاريخيا كانت البداية بعد الحرب العالمية الثانية بفئة العمال في ألمانيا، وبالتجار وأصحاب الأعمال والدارسين المتخصصين في الولايات المتحدة الأمريكية، وبالطلبة المبتعثين بأهداف سياسية إلى بلدان شيوعية أوروبية، بينما كانت نشأة الأقليات المسلمة في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا نتيجة من نتائج سياسات استغلال الثروات والقوى العاملة مع العمل لتذويب هوية المهجرين (وغير المهجرين) من أهل البلاد الأصليين في المستعمرات.
المحدد الخامس:
التفاوت بين بلد وآخر فيما شهده تكوين الجيل الثاني والثالث من الأقليات المسلمة، أي المواليد في بلدان الإقامة، حيث غلب في بعض البلدان الأوروبية كألمانيا والنمسا وهولندا وبريطانيا عامل رعاية تعليمية أفضل للمواليد ثم ممارسة مهن متميزة اجتماعيا، وكان لذلك أثره في تكوين شخصية المسلم في مجتمع ذي غالبية غير مسلمة، بينما هيمنت عوامل الحد من وجود العامل الديني أصلا في البلدان الأوروبية الشرقية مثل بلغاريا والمجر وبولندا.
المحدد السادس:
من العوامل الأخرى المستجدة على خارطة الأقليات المسلمة في البلدان الغربية تخصيصا ما شهدته سنوات ما بعد الحرب الباردة بين شرق وغرب، وفوارق المعيشة بين شمال وجنوب، من ارتفاع كبير لنسبة المهاجرين والمشرّدين من المسلمين عن بلدانهم الأصلية إلى دول غربية، وتفاقم ذلك عقدا بعد عقد، وهو ما يجري استغلاله في نشر ظاهرة الرهاب من الإسلام / إسلاموفوبيا كما يساهم في تغيير تضاريس خارطة الاختلافات القائمة أصلا بين فئة وأخرى من فئات كل أقلية مسلمة على حدة.
المحدد السابع:
من العوامل التي تتطلب المراعاة أيضا وجود نسب متفاوتة من مسلمين وفق المولد وفي أسرة مسلمة، أو هوية الوافد المهاجر، ممن يرفضون انتماءهم الإسلامي أصلا من منطلق توجهات معادية عموما لأديان الوحي، وهذا مع الترويج لأنفسهم في بلدان الإقامة تحت عناوين الانتساب إلى إسلام “علماني” أو “حداثي” أو “متطور” أو ما شابه ذلك، فيُحسبون على الأقلية المسلمة في بعض البلدان عموما، رغم أنهم يعمدون إلى إنشاء تشكيلات تنظيمية وإطلاق مبادرات متتالية تعادي تنظيمات إسلامية التوجه أو تشوّش مثلا على جهود نشر تدريس الإسلام للتلاميذ من المسلمين، وما شابه ذلك.
المحدد الثامن:
التفاوت بين فئات وأخرى من الجيل الثاني والثالث على خلفية عناصر عديدة، مثل الوضع المعيشي المالي، والمستوى الفكري والثقافي، بالإضافة إلى تفاوت درجات الالتزام الديني الأسروي وتوريثه أو الانفكاك عنه تحت تأثير المجتمع وثقافاته غير الدينية، وجميع ذلك يؤدي إلى اختلافات جوهرية بين تلك الفئات من “جيل المستقبل”، من حيث تعاملها مع الواقع حولها ثقافيا وفكريا وبالتالي يجعل من العسير السؤال مثلا عن “دورها الدعوي المشترك” بالمفهوم التقليدي للكلمة.
يبقى أن ما سبق مجرد استقراء أمثلة ونماذج تبعا للمعايشة المباشرة من كاتب هذه السطور، على “منطلقات” عناصر أولية لنشأة الاختلافات بين “الأقليات المسلمة” وداخل كل منها على حدة، بالقدر الذي يستهدف التنويه إلى آثاره وما ينبثق عن ذلك من استنتاجات.
من آثار الاختلاف على أرض الواقع
معطيات واقعية قائمة
من حيث “التصنيف البشري”.. لا نجد مجموعة بشرية بمقاييس توجه ديني، أو انتماء قومي، أو نهج معيشي، أو حتى التلاقي اللغوي، إلا وفيها تعددية من صنع اقتناعات ذاتية وتجاوزات أو انحرافات، ومؤثرات خارجية أو ضغوط متقلبة ومتبدلة.
ومن حيث “التصنيف الجغرافي”.. لا توجد مع تطور مسارات العلاقات البشرية أي بقعة جغرافية في صيغة دولة أو اتحاد دول أو حدود مفروضة، مع التجانس سكانيا والخلو من أصناف التعددية البشرية مع تنامي ظاهرة التداخل بين الفروع والنوعيات عقديا وقوميا ومنهجا معيشيا ولسانا لغويا وبالتالي ثقافة وفكرا.
يسري هذا وذاك على ما نعتبره أقليات مسلمة ومواطن وجودها في مختلف أنحاء العالم، مثلما يسري على البلدان ذات الغالبية السكانية من المسلمين.
بين التعدد والاختلاف
التعددية منتشرة ولكنها ليست مكمن الإشكالية مع ملاحظة أنها ظاهرة لن تزول على كل حال في مسارات تاريخ الحياة البشرية، كذلك لا تكمن الإشكالية في اختلافات تنطوي التعددية عليها، بل تكمن فيما يتجاوز رصد “واقع” وجود فروع التعددية تاريخيا وحاضرا، إلى “توظيف” بعضها لبلوغ أهداف لا تصدر من جهة عن مبدأ إسلامي مثل “لتعارفوا” أو دعوات “التلاقح الحضاري” وما شابه ذلك ولا تصدر من جهة أخرى عن مبادئ التعايش والتسامح وفق أطروحات أخرى معاصرة، بل تصدر أهداف استغلال التعددية في الدرجة الأولى عن عناصر “الصراع والغلبة والعنصرية والمطامع” وإن أخذ بعض ذلك عنوان “المصالح” أو “الواقعية” وما شابه ذلك. وبالتالي لا يخوض الحديث هنا في التعددية كظاهرة عامة لها إيجابياتها منذ بدء الخليقة، بل يدور عن بعض تجلياتها في شكل “اختلافات” توظفها جهات متعددة في خدمة “صراعات وأزمات” فتترك أثرها في الواقع القائم لأقليات مسلمة في أنحاء العالم.
والحديث عن “أقلية مسلمة” ينطوي على التمييز عموما بين “مسلمين” وغير مسلمين عقديا، ولكن تأثير هذا الاختلاف غير قابل للصياغة المحكمة، فلا يخفى على سبيل المثال دون الحصر:
١- وجود من شاع في وصفهم تعبير “مسلمون بالهوية”.. ولا يمكن هنا تأطير توصية أو آلية عمل لدفع “أقلية” إلى عمل ما، وهم لا يعتبرون أنفسهم منها أو لا يوجد في واقعهم المعاش ما يسمح بتصنيفهم في إطارها..
٢- وجود تناقضات بين فئة مسلمة مذهبية وأخرى داخل نطاق “الأقلية المسلمة” أكبر بمفعوله أحيانا من التناقض بين بعض تلك الفئات وبين “الآخر” عقديا من منظور ديني.. فلا يمكن هنا أن يكتسب بذل جهود “مشتركة” مفعولا مؤثرا تحت عنوان الأقلية المسلمة غير المتجانسة داخليا.
إن البحث عن توصيات توجيهية أو مخططات أنشطة أو آليات عمل لا يواجه مجرد “عقبات” قابلة للزوال بل يتحول عند وضع واقع الاختلافات في الحسبان إلى تمنيات غير قابلة للتحقيق.
نموذج عن نتائج اختلافات مركبة
يستند كاتب هذه السطور إلى وجوده على امتداد عدة عقود في ألمانيا لطرح نموذج من النتائج الناجمة عن اختلافات مركبة في واقع وجود المسلمين في ألمانيا، وهو أقل تعقيدا منه في بلدان غربية أخرى.
هنا يندر توافر أرقام ومعلومات تتحدث بإحكام عن نسب دينية فتنتشر التقديرات، وهي لا تستخلص من “إحصاءات” ولا تتناول فئة المسلمين باعتبارهم مسلمين، بل غالبا ما يدور الحديث عن “وافدين” قبل عقود من بلدان ذات غالبية من السكان المسلمين، ونعلم أن ذلك لم يقتصر على “مسلمين” فقط، وعن مواليد من الجيل الأول والثاني، وعن مهاجرين بقصد اللجوء حديثا، وعن المجنسين، وعن تلاميذ من غير ذوي الأصل الألماني في المدارس، وهكذا.
بالمقابل كثيرا ما تنتشر في كتابات باللغة العربية عن الأقليات الإسلامية كما لو أن النصوص المستمدة من تقديرات تصور واقعا فعليا، دون بذل جهود خاصة من المقارنات والحسابات وتقصي آخر المعلومات والتقديرات المتباينة والمتداولة في تصريحات رسمية ومنشورات رسمية وإعلامية، ليمكن استخراج أعداد “أقرب” إلى الصحة حول كافة من يُنسبون أو ينتسبون إلى “الإسلام” فعلا او من باب “الهوية”، لنقول – بصدد ألمانيا مثلا- إن المجموع تجاوز على الأرجح ستة ملايين من أصل ثمانين مليون نسمة تقريبا من السكان.
بالأسلوب نفسه من بذل الجهود الاستقصائية يمكن أن نصل تقديرا أيضا إلى القول إن أكثر من نصف هذه “الأقلية المسلمة” هم من ذوي الأصل التركي، وزهاء الربع من أصول عربية، ويلي ذلك ذوو الأصول من بلدان آسيوية أخرى ثم ذوو الأصول من بلدان إفريقية أخرى.
أول ما نستخلص من ذلك كمثال بارز للعيان عامل الاختلاف المتجسد في التعدد اللغوي، ومن نتائجه بصورة مباشرة، تعدد المصادر والمراجع ذات العلاقة بالإسلام والمسلمين، وتعدد التنظيمات والأنشطة على اختلاف أنواعها وأهدافها، واختلاف الأرضية المشتركة للخلفية المعرفية والثقافية حسب بلد المنشأ، ومن الواضح أن الخوض في ذلك في بحث علمي لا يمكن أن يخرج عن إطار التعميمات والخطوط العريضة.
وللحفاظ على الوضوح نسبيا يمكن أن نحصر الحديث في فئة ذوي الأصل التركي كمثال على فئات “الأقلية المسلمة” في ألمانيا. في هذا النطاق الضيق أيضا للبحث عن “نتائج الاختلافات” بمنظور إسلامي، ندخل في:
١- تفريعات على أساس المذهب ما بين سنة، وعلوية، ولا دينيين، وعند النظر في نتائج ذلك نجد على سبيل المثال ما يصدر من أطروحات بشأن صياغة مناهج تدريس الإسلام للتلاميذ، فلا يوجد “مقترح الأقلية المسلمة” أو “الأقلية التركية” بل مقترحات متعددة متناقضة فيما بينها إلى حد كبير.
٢- تفريعات قومية بين أتراك وأكراد ومن بينهم المتجنسون، والمواليد في ألمانيا، وغير المتجنسين، ومن النتائج بمنظور إسلامي ضياع تأثير حق المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات والأنشطة السياسية الأخرى.
٣- تفريعات اجتماعية بين من بقي من جيل الوافدين وغالبهم عمال دون مؤهلات علمية أو حتى لغوية، ومن استطاع تأسيس شركات ناجحة ووصل إلى مستويات معيشية جيدة، ثم من انخرط من الجيلين الثاني والثالث في نظام التعليم الألماني مع مراعاة تعليم إسلامي إضافي أو دون ذلك، ومن النتائج بمنظور إسلامي ما ترتب من إخفاق في تحقيق أهداف إسلامية جوهرية، وذلك بسبب عدم مراعاة تعدد المستويات وتفاوتها في الخطاب الحركي والتعليمي والثقافي والدعوي وفي الأنشطة المرتبطة بذلك.
٤- تفريعات حركية بين أنشطة نشأت ذاتيا لتلبية احتياجات تعبدية، وأخرى ارتبطت بتوجهاتها بالجهات السياسية والممولة في تركيا، ومن النتائج تأثير ذلك سلبا على التعامل مع “الآخر” من أقلية المسلمين ومع السلطات في ألمانيا.
وتزداد ظاهرة اختلاف الواقع والاحتياجات المناسبة له مع الانتقال إلى مستويات تالية من التفريعات، كمستوى تعليم الأطفال والناشئة من الأقليات، ومن ذلك اختلاف احتياجات هذه الفئة عن بعضها بعضا إذا كانت:
– تنتمي إلى مواليد الوافدين..
– أو مواليد مسلمين من الأهل الأصليين في البلد المعني..
– أو مواليد الجيل التالي..
– ثم وفق درجة المعرفة والوعي للأسر المعنية..
علاوة على الاختلافات التقليدية الناجمة عن تفاوت الأعمار والمستوى الاجتماعي وغيرها.
وشبيه ذلك يسري على قطاع التعليم الجامعي، والتخصص، وإضافة ما يحتاج المسلم إليه من علوم تتعلق بالإسلام والمسلمين وقضاياهم.
تطور نتائج الاختلاف مع “الآخر”
لعل الأجدى من الاسترسال في الأمثلة لتوضيح معضلة التعامل المنسجم والهادف مع “أقلية مسلمة”، أن ندعو إلى الانطلاق من منهجية متعددة المستويات والفروع، تعتمد في جوهرها على اختيار “فئات” بعينها، كنماذج بحثية، مع السعي لضمان ما يتوافر بصددها من معلومات مبدئية، على أن تكون كافية وفق معايير التصنيف المتعددة، والمستمدة من واقع تلك الفئات والواقع من حولها، ثم طرح السؤال عما يمكن صنعه بالنسبة إلى كل فئة من الفئات على حدة، بعيدا عن الأسلوب التعميمي في طرح الأهداف والتقديرات والاستنتاجات والتوصيات.
وقد كان الحديث عن “أقليات مسلمة” يركّز في عقود سابقة على جوانب تاريخية وجغرافية وما يترتب على ذلك سياسيا، وغالب ما يطرح حديثا تحت العنوان نفسه، يتأثر بأحداث من قبيل مواجهات ثقافية واجتماعية وسياسية وأمنية مع “الآخر” من المسلمين وغير المسلمين داخل نطاق البلدان ذات الغالبية السكانية من “المسلمين” وكذلك مع “الآخر” في بلدان أخرى من صناع القرار والحدث من غير المسلمين عقديا أو توجها سياسيا أو إرثا معرفيا.
عند البحث في ذلك نرصد أن معظم ما ينشر:
١- ينطلق من أن “أقليات المسلمين” لا سيما من جيل الأطفال والناشئة، تتأثر سلبا أكثر مما تتأثر إيجابا في نطاق مجتمعات بلدان الإقامة، ناهيك عن استبعاد قابلية التأثير الفعال على تلك المجتمعات بصورة كلية.
ليس هذا صحيحا بالضرورة، لا سيما وأن انتشار الإقبال على الالتزام بالإسلام انتشر بوضوح في فئات عمرية يدور الحديث غالبا عن أنها في خطر كبير حسب عموم ما تذكره الكتابات بالعربية عن الأقليات المسلمة.
٢- ينطلق من اعتبار أقليات المسلمين في مواقعهم الجغرافية هذه جزءا من “الأمة” بمعنى الربط المباشر مع المسلمين في عموم البلدان الإسلامية، وبالتالي فهم مجرد “مغتربين” أو “مهاجرين” في بلدان أخرى.
ليس هذا صحيحا بالضرورة فالواقع أنهم أصبحوا جزءا من مجتمعات تلك “البلدان الأخرى” فلم يعد محور احتياجاتهم هو الحصول على رعاية خاصة من جانب آخرين “من خارج تلك البلدان” للحفاظ على النسب العقدي المشترك، بل يكمن محور تلك الاحتياجات فيما يمكّن أقليات المسلمين من التحصيل الذاتي لمزيد من القدرات الذاتية تتلاءم مع تعدديتهم، لأداء أدوار إيجابية متنوعة أيضا.
٣- فيما عدا ذلك غالبا ما تطرح في البحوث العامة حول أقليات المسلمين معايير واستنتاجات وتوصيات واقتراحات من زاوية نظر لا تكشف إلا نادرا عن الاطلاع الكافي على الواقع بتفاصيله فضلا عن المعايشة المباشرة لفترات زمنية كافية، ولا ينفي ذلك إطلاقا قيمة البحوث المعنية، المتفاوتة على حسب درجات العلم بالإسلام أو الدرجات العلمية الأخرى لدى من يقوم عليها.
إن مهمة البحث العلمي الواجبة نظريا وميدانيا للوصول إلى استنتاجات موضوعية وتوصيات عملية، تتحول في مسألة “أقليات مسلمة” إلى مهمة لا نهاية لها، عند النظر منهجيا فيما ينتشر على أرض الواقع من اختلافات متعددة نوعا وكما، ما بين فئات أقلية مسلمة في بلد واحد كألمانيا، أو في منطقة إقليمية كأوروبا، أو ما بين أقليات مسلمة في بلدان متجاورة كبلدان الاتحاد الأوروبي باعتباره كيانا دوليا، أو في أقاليم متعددة شبه متجانسة (غربيا) كأوروبا الغربية والشرقية وأمريكا الشمالية والوسطى والجنوبية.
والحصيلة:
إن إشكالية الأقليات واقعا ومضمونا تشعبت كثيرا، ولم تتشعب معها البحوث الهادفة التي تركز على ميادين محددة وتتعامل معها. ولعل هذا أهم ما تجسده نتائج “الاختلافات”، إذ لم يعد في الإمكان واقعيا أن ينطلق الباحث أو العامل الناشط من منطلق عقدي دعوي فقط ويبلغ به تحقيق ما تحتاج إليه الأقليات اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا في بلدان الإقامة وعلى صعيد علاقاتها بقضايا “الأمة”، ويمكن تأكيد شبيه ذلك إذا كان منطلق الباحث “سياسيا” أو “اجتماعيا” أو “حركيا” أو تعليميا وتربيويا” وهكذا.
إن كل ميدان من هذه الميادين ميدان واسع للغاية ومتفرع على مستويات متعددة ومتداخلة، ولا يصلح للتعامل معها سوى التوسع المماثل والتفرع المماثل في طريق علاج الإشكاليات، بحيث يتجنب الباحث التقييد المسبق للنتيجة المحتملة من بحثه.
خاتمة
استنتاجات وتوصيات
(الرؤية – المرحلية – المراجعة – التعدد والتخصص – الآليات والتقنيات – التشبيك)
إن البحث في شؤون مسلمي “الأقليات” يفرض رؤية ارتيادية شاملة، تتعدد فيها الأبعاد والمستويات والمراحل، وتتكامل من خلال مراعاتها النتائج، مع العمل لضمان انسجام البحوث العلمية الضرورية حول الأقليات المسلمة مع هدف عقدي ودعوي، ولا بد قبل الخوض في خطوات تفصيلية من تأمين شروط أولية وضرورية لتحديد المطلوب منهجيا، وفي مقدمة ذلك:
(أولا) صياغة رؤية استشرافية “فكرية وعملية” بشأن الأقليات بحيث تجمع بين أهداف بعيدة ومنطلقات تراعي الواقع القائم، المختلف عن تلك الأهداف.
المقصود: معظم ما نشر عن “الأقليات المسلمة” – وهو كثير – يشمل:
(١) تشخيصا متكررا للأوضاع والمعطيات وجذور نشأتها، غالبا ما يفقد قيمته بعد نشره بفترة وجيزة لغلبة تكرار ما ورد في دراسات سابقة، وبسبب تسارع مجرى التطورات والأحداث ونتائجها..
(٢) تعميما فضفاضا للأهداف بخطوطها العريضة دون تأطير يكفي لبيان علاقتها بحصيلة التشخيص المتكرر. وبتعبير آخر: لا نكاد نجد طرحا منهجيا “علاجيا” يربط بين تشخيص آني وأهداف بعيدة.
هذا ما يستدعي من المهتمين والباحثين ومراكز الدراسات إعطاء الأولوية لصياغة رؤية استشرافية منطقية واصلة بين واقع فعلي متطور باستمرار، وواقع مستقبلي مأمول له معالم مقنعة، وهذا شرط مسبق لبذل جهد خاص لطرح أساليب جديدة في المنهجية الدراسية المتطورة المطلوبة، مع التخطيط لأنشطة عملية مترتبة عليها.
(ثانيا) صياغة المنهجية الضرورية لعمل مرحلي يتضمن استناد مشاريع الدراسات والأنشطة إلى نتائج متتابعة وليس عبر العودة المتكررة إلى البدايات.
في التعامل مع قضايا “الأقليات” وقضايا أخرى نجد أن الرؤية النظرية وإن ربطت ربطا منطقيا بين الواقع القائم والمستقبل المنشود تبقى مجرد نظرية لا تغير بحد ذاتها الواقع ولا تبني المستقبل، وهذا مما نرصده عموما كنتيجة خطيرة لذهنية مخادعة يغلب لدى صاحبها أن العمل يتحقق بمجرد الحديث عن العمل، في دراسة أو مؤتمر أو خطبة أو كتاب، وجميع ذلك من جنس “الكلام” لا “العمل”، ولا يتحقق أي مشروع عند الفصل بين “الكلام والعمل” في مخططه التطبيقي، ويتطلب علاج ذلك خطوات متتالية أولاها: ربط مخطط العمل في كل مرحلة من مراحله بتطويره وتعديله وفق ما يقتضيه تقويم نتائج مرحلة سابقة، مع وجود آليات “حيادية” للتقويم والتطوير ومع تقدير قيمة النتائج وتحديد الاحتياجات لتطويرها بقياسها على المنطلقات الواقعية الأولى والأهداف البعيدة في الرؤية الاستشرافية.
(ثالثا) توطين مراجعات دورية في مخططات العمل والربط فيها بين متطلبات البحث المنهجي من جهة والتكامل الموضوعي بين النتائج من جهة أخرى.
لا تعني عملية تقويم مراحل العمل وتطوير مخططها فصل تلك المراحل عن بعضها بعضا، لا سيما مع ملاحظة تسارع عجلة التطورات وبالتالي الشروط المحيطة بالعمل في قضايا الأقليات وسواها، إنما تعني تداخل مراحل العمل، فتبدأ التالية قبل نهاية السابقة، ولهذا ينبغي أن ينطوي مخطط كل مرحلة على حدة مراجعة اندماجية في المخطط ومتزامنة مع مسار خطواته التنفيذية، وهذا مع توافر آلية لاتخاذ قرار للتصرف الفوري أو المؤجل على حسب ما تكشف عنه المراجعة.
(رابعا) الحرص على امتداد العمل عبر الحدود السياسية والجغرافية وعبر تعدد التخصصات بحيث تغطي الدراسات ونتائجها مختلف الجوانب الأساسية.
لا يقتصر هذا المبدأ على قضايا الأقليات، إنما يعتبر الأخذ به في نطاقها شرطا بالغ الأهمية لتحقيق نتائج عملية على أرض الواقع، فمن المستحيل فصل جانب عقدي عن جانب معيشي، ولا جانب سياسي عن جانب اجتماعي، وغير ذلك من جوانب ما تحتاج إليه “الأقليات المسلمة”. ومن المعروف على أرض الواقع:
(١) وجود أقليات أخرى من النواحي العقدية والسياسية والعرقية..
(٢) وجود تأثير متبادل للنجاح والإخفاق ما بين أوضاع الأقليات المتعددة والتعامل معها..
(٣) وجود آثار مباشرة للنجاح والإخفاق ما بين ميدان وآخر من الميادين المتعددة في قضايا الأقليات، فللجانب السياسي أثره على القانوني وللجانب الثقافي أثره على الجانب الاقتصادي، وهكذا.. والعكس صحيح في جميع الجوانب.
لا بد من التواصل والتخصص والتكامل، ولم يعد يكفي القول إن فلانا باحث متخصص في شؤون الأقليات، أو إن المركز الفلاني متخصص في دراسة قضايا الأقليات، فمهما بلغ الفرد من العلم أو بلغ المركز من الجهد، لن يحيط أي منهما بتلك الشؤون جميعا، وقد يعمم أو يختزل على حساب الأقليات واحتياجاتها.
(خامسا) تحديد آليات للعمل قابلة للتطوير المتجدد مع تطور التقنيات والوسائل المعاصرة والمستقبلية باتجاه ما يتقرر من أهداف.
باختصار شديد: يسري جميع ما سبق بشأن الرؤية والتخطيط والمراجعة المتزامنة مع التنفيذ وكذلك التقويم والتطوير والتخصص والتكامل على وسائل العمل وتقنياته وأدواته واستمرارية تجديدها، وليس على جوهر العمل ومضمونه فحسب. ولم يعد من الممكن -مثلا- وضع دراسة على المستوى المطلوب لقضية معقدة، إذا اقتصر الدارس أو الباحث على أسلوب مكتبي قديم، ولم يرصد أن القيمة الزمنية لوصف “قديم” في عالم التقنيات والأدوات لم تعد تقاس بالقرون والعقود بل بالسنوات والشهور وأقل من ذلك في كثير من الميادين والأحيان.
(سادسا) الشروع في العمل على إنشاء آليات تتطور تدريجيا باتجاه تواصل تشبيكي متقدم بين مراكز البحوث المتعددة ذات العلاقة وبين الأفراد الباحثين المشتغلين في جوانب الموضوع المتعددة، لتبادل المعلومات والنتائج تلقائيا ومراجعتها النقدية مع مراعاة تكاملها وعدم تكرارها.
رغم ترتيب هذه الدعوة أو التوصية في المرتبة الأخيرة، فهي تبدأ بكلمة “الشروع..” وتعني الشروع الفوري، فجميع ما سبق غير قابل للتحقيق دون الشروع الآن في “التشبيك” ليمكن في فترة زمنية معقولة بلوغ مستويات مرضية بحدها الأدنى، وترتقي لاحقا نحو الأفضل باستمرار على صعيد “التشبيك” وبالتالي التعاون والتكامل والتلاقح بين أصحاب التخصصات والاهتمامات المتقاربة والمتطابقة، علما بأن “التشبيك” قد ورث في الواقع البشري المعاصر والعالمي المتطور، منذ عقدين من الزمن على الأقل، مكان “التنظيم” التقليدي في العمل على صعيد القضايا الإنسانية، ولم يعد يمكن تحقيق هدف جليل دونه، سواء في خدمة قضية جليلة كقضية الأقليات، أو سواها من القضايا المشروعة.
والله من وراء القصد، وأستودعكم الله، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب
هوامش
(1) انظر ص 8 في الملف القابل للتحميل من منشورات موقع الألوكة:
http://aiiav.org/wp-content/uploads/the-problems-of-muslim-minorities.pdf
(2) حول مفهوم الأقلية انظر في الموسوعة الحرة / ويكيبيديا باللغة العربية:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%A3%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA_%D9%85%D8%B3%D9%84%D9%85%D8%A9
ومادة Minderheit (بالألمانية):
https://de.wikipedia.org/wiki/Minderheit
(3) انظر لمزيد من الأمثلة والتفاصيل: محمد عبد العاطي، الأقليات المسلمة في العالم، شبكة الجزيرة / الدوحة، بدون تأريخ على الرابط التالي:
https://www.aljazeera.net/specialfiles/pages/fa45fbf5-7985-4462-b74e-b5fa1362b15b
(4) انظر حول المؤتمر تقرير وكالة الأناضول التركية:
(5) انظر حول المؤتمر في شبكة الألوكة:
https://www.alukah.net/world_muslims/0/52459/#ixzz5yShXDX6o
(6) يمكن الرجوع للمحاضرة في موقع “المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث” على الرابط التالي:
(7) لا يقتصر الأمر على اليمين المتطرف بشأن التحذير من ارتفاع عدد المسلمين في الغرب ارتفاعا كبيرا وسريعا، وسبق لمراكز بحوث أمريكية نشر ما اعتبرته “دراسات مستقبلية” لهذا الصدد، ويمكن كمثال الرجوع إلى ما نشره مركز بيو للأبحاث (Pew Research Center) وتبنت نشر تقرير عنه الفضائية الأوروبية المعروفة “أويرو نيوز” بتاريخ 30 / 11 / 2017م بالعربية بعنوان “عدد مسلمي أوروبا سيصبح ضعف عدد الأوروبيين في عام 2050″، على الرابط التالي:
https://arabic.euronews.com/2017/11/30/europe-s-growing-muslim-population-2050
بينما تعود مراجع أخرى إلى تقديرات واستطلاعات في الحديث عن نسبة الأقليات المسلمة في الغرب، انظر مثلا:
حول الإسلام والمسلمين في أوروبا:
https://de.wikipedia.org/wiki/Islam_in_Europa
وحول الإسلام والمسلمين في الولايات المتحدة الأمريكية: