تحليل
لا يخفى الخلل في البحث عن العدالة في التعامل مع قضية اغتيال جمال خاشقجي رحمه الله، وتقلّب تداعياتها على العلاقات السعودية الخارجية. والصورة الحالية من ذلك صورة مخزية ومؤلمة، من مشاهدها ما نرصده في الحوارات الإعلامية المتلفزة، عندما يظهر متحدثون مقربون لدرجة التبعية المطلقة للسلطة في السعودية، وعند المطالبة بالقصاص من القاتل آمرا ومنفذا، لا يجدون غضاضة في اختزال “العدالة” وتشويهها بقولهم إن مجرد توجيه أصابع الاتهام إلى ولي العهد محمد بن سلمان بصدد جريمة اغتيال خاشقجي، أمرغير لائق بمكانته في تلك السلطة.
هذا جزء مما أصبح عليه حال السلطة السعودية، فمن صنع أيديها أنها كانت ولا تزال تمارس سياسات “لا تليق فعلا” إذ جعلتها أقرب إلى الرقيق بين يدي الدولة الأمريكية، فأصبحت تملك أمرها وأمر البلد الذي تعتبره السلطة تحت سيطرتها وتملك مختلف وسائل التأثير المباشر على واقع الشعب ومستقبله، بينما تسلبه سلطة بلده حرية إرادته وصناعة قراره بنفسه.
يجري جميع ذلك ثم توضع له عناوين مراوغة زئبقية كالمصالح والواقعية وما شابهها. ولكن البلد نفسه أصبح مستهدفا، وهذا ما تؤكده حصيلة السياسات الأمريكية والغربية، ومنها ما يتجلى في ضمور أي دور سعودي فاعل في مواجهة لعبة التنافس الإجرامي، الإيراني الإسرائيلي أو الإيراني الغربي للهيمنة الإقليمية، ومنها التحكم الخارجي بقراراتها حول الحرب والسلام، ومنها انتهاك الوعود وعلاقات التحالفات والتخلي عنها حتى في حالة تعرض الأرض “السعودية” نفسها لعدوان خارجي، وهو ما بات يجري يوميا منذ الضربة العسكرية الأولى لمنشآت آرامكو النفطية.
على هذه الخلفية تبدو مشاهد أخرى مفزعة ومؤلمة؛ ومنها لجوء كثيرين من المنتسبين للنخب في بلادنا إلى العجرفة الأمريكية أو الغربية واعتبارها هي ملاذ الحصول على حد أدنى من “العدالة” في قضية مثل قضية خاشقجي رحمه الله أوسوى ذلك من قضايا العدالة والحقوق والحريات لدى شعوبنا وبلادنا؛ وهذا رغم ما نراه جميعا في التعامل الغربي ولا سيما الأمريكي مع قضايانا، من خلل وتمييز عنصري وازدواجية معايير وتغليب مصالح مشروعة ومنافع استغلالية غير مشروعة على جميع ما تعنيه إنسانية الإنسان، ورغم ما نعايشه من استفحال عواقب منظومة الهيمنة والتعبية في خدمة شبكة الاستبداد المحلي والدولي.
نتمنى – ونسأل الله أن نعمل لتحقيق الأماني – أن تكون محاسبة أي فرد من الشعوب أو من السلطات في بلادنا أمرا سياديا، تتولاه جهات تمثل الشعوب حقا ومؤسسات قضائية مستقلة ونزيهة، كي تزول الحالة المزرية الحالية، التي يلجأ فيها من يلجأ إلى أجهزة قضاء غربي أو دولي، ليحاسب باسم شعوبنا بعض المتسلطين عليها ظلما وعدوانا.
صحيح أن المحاسبة عبر سلطات القضاء في البلدان الغربية أقرب لتحقيق العدالة، ولكن لنذكر بوضوح:
١- ما يُرتكب من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية من جانب المسؤولين السياسيين والعسكريين في البلدان الغربية نفسها يمكن أن يجد محاسبة قضائية غربية، إذا كان الضحايا من جنس إنسان “حضارة الإنسان الأبيض”، ولكن لا يجد ذلك عندما يكون الضحايا من جنس “الإنسان من الدرجة الثانية” أي إنسان “العالم الثالث”، لا سيما من بلادنا العربية والإسلامية.
٢- حالات المحاسبة الدولية – أي الغربية واقعيا – لمجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية لا تشمل عناصر الاستبداد الإجرامي المرتبط أو غير المرتبط بهيمنة المصالح والمطامع الغربية، إلا نادرا، وعلى وجه التحديد لابتزاز مزيد من التبعية غالبا، بل بات أي عسكري أمريكي يحصل على “حصانة” غير مشروعة، تمنع أي محكمة قطرية أو دولية، من التعرض له وإن ارتكب جريمة علنية في البلد “المضيف”.
لا ينبغي لقضية اغتيال جمال خاشقجي أن تصبح “ذكرى” تتحرك حينا وتُهمل حينا آخر، رنما يذكرنا تجديد الاهتمام بها مجددا بالبحث منذ زمن عن تحقيق العدالة في التعامل مع قضايا اغتيال إرادة الشعوب واعتيال ثوراتها المشروعة بموجتيها الأولى والثانية في معظم البلدان العربية.
وإن افتقاد العدالة يذكّر أيضا بقضايا في حُكْم المزمنة تاريخيا، كأمثلة على وأد إنسانية الإنسانية والتحرك المضاد لتحرّر الشعوب والأوطان، كما في فلسطين وكشمير والشاشان وأخواتها، كما يذكّر بغياب محاسبة مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية رغم ما انكشف من ذلك في حروب احتلال أفغانستان والعراق.
وإن افتقاد العدالة على هذا النحو الخطير يؤكد أن الأزمة أزمة قيم وأخلاق، فما دام يقال دون حياء إن السياسة لا أخلاق لها، وطالما يصنع الفصام النكد صنعا ما بين الأنظمة الدستورية ومنظومة القيم والأخلاق، لن تجد العدالة سبيلها إلى التحقيق دون قيد أو شرط، وهذا مما يوجب التلاقي على طريق التغيير الجذري، فما كانت العدالة وما ينبثق عنها هدية تهدى، ولا سلعة تباع وتشترى، إنما هي حالة حضارية تتحقق مع سواها إذا وجدت من العاملين للتغيير من هو جدير بحمل راياتها والعمل الجاد المتواصل لتحقيقها في واقع المجتمعات وفي بناء الدول وفي ممارسة العلاقات الداخلية والخارجية في كل مكان وزمان.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب