اغتيال القضية عبر اغتيال تاريخها

نشرت في جريدة الشرق القطرية يوم ٢٤ / ١١ / ١٩٩٩م

تحليل

لا ريب أن ما جرى ويجري على صعيد قضية فلسطين (قبل طوفان الأقصى بفترة طويلة) يتجاوز بنتائجه المباشرة حدود أبناء فلسطين تحت الاحتلال وإخوانهم المشردين في أنحاء الأرض، وهذا ما انعكس بالفعل فيما نعاصره على منحدر التراجع الاستسلامي، جنبا إلى جنب مع تحجيم القضية:

– من قضية إسلامية جامعة

– إلى قضية عربية قومية

– فإلى صراع إقليمي

– ثم إلى مشكلة فلسطينية

– ثم إلى مشكلة فلسطينيين

– مع فصل النزاع العربي-اليهودي عنها وحصره في مشكلات حدود وعقود

– ثم الهبوط بجميع ذلك إلى حضيض كامب ديفيد فمدريد فأوسلو.

إن المحور الرئيسي لتحجيم القضية على هذا النحو قائم على خنق ذاكرتنا التاريخية، والأخطر منه ما يجري لتجريد الجيل القادم من وعيه التاريخي بالقضية، لسد الأبواب أمام احتمال أن يقوم بما لم يقم به جيلنا الحاضر أو عجز عن القيام به.

وكما أن عملية خنق الذاكرة التاريخية في إطار ما يستحق وصف غسيل دماغ جماعي لا تجري اعتباطا، كذلك فإن تجديد ما يحييها وما يعمق الوعي الفردي والجماعي بها، لن يتحقق من تلقاء نفسه ودون بذل الجهود الواجبة من أجله.

ولنتأمّل كمثال في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام ميلادي، ولنذكر بعض ما فيه من أيام كان لها موقعها المؤثر في التفاعل مع تاريخ قضية فلسطين والوعي بها، ثم كيف سقطت في زاوية النسيان التاريخي لتوجيه مسار القضية في الاتجاه الخطير الذي عاصرناه، وهو ما يساهم بعض بني جلدتنا في صنعه ويكتفي غالبنا بموقف الانتظار، ربما حتى يصل الحريق إلى بيته.

كيف أصبحنا نتعامل مثلا مع:

– وعد بلفور يوم ٢ / ١١ / ١٩١٧م

– قرار التقسيم في الأمم المتحدة يوم ٢٩ / ١١ / ١٩٤٧م

وقد كانا الأوفر حظا من التذكير بهما إلى وقت قريب، ثم أصبح ذلك يجري على استحياء، وهذا مع أنهما لم يكونا قطّ موضع خلاف في الرأي، ولا مادة مساومات في صراع التيارات المتعددة من قبل.  

ومن تلك الأيام أيضا:

– يوم ١٩ / ١١ / ١٩٣٥م، وهو يوم استشهاد عز الدين القسام الملقب بشيخ مجاهدي فلسطين في العصر الحديث.  

– ثمّ بعد ٤١ عاما كان يوم ١٩ / ١١ / ١٩٧٦م، يوم زيارة الرئيس المصري السابق أنور السادات للقدس المحتلة والتي تبيح القول إنه كان بذلك شيخ دعاة التسوية إذا صح التعبير.

– ومنها أيضا ما يبيّن الأرضية التي تحرك عليها السادات، كيوم ٢٧ / ١١ / ١٩٧٣م، عندما اعتبرت قمة الجزائر منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا (شرعيا) وحيدا لشعب فلسطين، ثم جرى تثبيت القرار في قمة الرباط بموافقة أردنية عام ١٩٧٤م، وبعد شهور معدودة (في أيار/ مايو ١٩٧٥م) أعلن عرفات أنه (يريد إقامة دولة للشعب الفلسطيني والشعب اليهودي وليس إسقاط الدولة العبرية بالقوة).  

– ومنها أخيرا في نطاق هذه الأمثلة المعدودة يوم ١٥ / ١١ / ١٩٨٨م، عندما أعلنت منظمة التحرير عن قيام دولة فلسطينية عبر المجلس الوطني الفلسطيني، والواقع أنها أعلنت الاعتراف الواقعي بالدولة العبرية، من خلال الاعتراف بقراري مجلس الأمن المعروفين، وهذا ما فهمته واشنطون -والأرجح أنها عرفت به مسبقا- فبدأت الاتصالات مع المنظمة بعد أربعة أسابيع فقط.

* * *

لسنا بصدد النظر في مدلول الأحداث بحد ذاتها، ولكن يلفت النظر أنها وسواها من الأيام الفلسطينية، لم تعد تلقى ما هي جديرة به من الاهتمام، ولا حتى في حدود إحياء الذكرى، بكلمات حماسية للحفاظ على حياة الوجدان، وليس المقصود هنا أنه لا يهتم بها أولئك الذين أصبح همهم الأكبر موجها إلى الاحتفاء بمناسبات أخرى، مثل المشاركة المشينة في الاحتفاء سنويا بيوم اغتيال إسحق رابين، أي رئيس الوزراء الصهيوني الذي عُرف في أرض فلسطين المحتلة بأنه مبتكر أسلوب تهشيم العظام في مواجهة الانتفاضة.

إن الذين انسلخوا من جلدهم حضاريا وتاريخيا ولبسوا جلدا آخر، ليسوا مقصودين بهذا الكلام، بل يجب أن نتجاوز هؤلاء وأن نتجاوز أيضا توظيف بعض وسائل إعلامنا، داخل بلادنا، لتشويه تاريخنا، حتى أصبح يغلب على التأمل في صفحات تاريخنا استخدام المنظار الصهيوني والأمريكي وإقصاء منظارها العربي والإسلامي الأصيل.

والتواريخ المذكورة آنفا أمثلة لم تشمل سائر الأيام الجديرة بالاهتمام في الوعي التاريخي للقضية، ولكن ليس المقصود هنا مجرّد تعدادها، بل المقصود تأكيد خطورة فقدان الذاكرة التاريخية، ولا غضاضة قطعا في وصف من يتعمد محوها من وجداننا وفكرنا بالخيانة الثقافية الحضارية، فهو بذلك كمن يمسك معولا ويهدم به أركان أي بناء مأمول لمستقبل بلده وأمته، وإن من يساعد على محوها أو لا يسعى للحيلولة دون ذلك، يساهم في عملية الهدم تلك من حيث يريد أو لا يريد، لا سيما وأننا نتحدث عن قضية محورها الأساسي هو التاريخ، من عهد الكنعانيين واليبوسيين، إلى عهد المقاومة الراهنة، ومن دولة التوحيد الأولى لأنبياء رسالات التوحيد وخاتمتها رسالة الإسلام، إلى يوم الإسراء والمعراج الذي أصبح كثير من أشكال الاحتفالات التقليدية به، ينأى عمدا أو جهلا عن الربط بينه وبين قضية فلسطين بإطارها التاريخي المعاصر.

* * *

قد يصح القول بصعوبة العمل حاليا لتحويل مجرى الأحداث والتطورات بصورة حاسمة ومباشرة لإعادة القضية إلى أرضيتها العربية والإسلامية وإلى موقعها الأصيل من الشرعية الدولية، بعد تزييف معاييرها وتجلياتها، ولكن ألا ينبغي إذن الإسهام على الأقل في العمل على إحياء الذاكرة التاريخية، قبل أن يمضي جيل ويأتي آخر:

– لا يقرأ عن فلسطين إلا باسم “إسرائيل”..

– ولا يسمع عن الجهاد للتحرير إلا تحت عنوان تطرف وإرهاب.

– وقد يتحول صانعو المذابح في دير ياسين وأخواتها وفي صبرا وشاتيلا ومن قبلها ومن بعدها، إلى أبطال سلام يقرأ عنهم في كتبه المدرسية ومجلاته الثقافية والفكرية ويرى الأفلام عن أمجادهم في فضائيات بلده وعلى الشاشة الصغيرة داخل بيته.

لا تنقصنا الأيام والمناسبات للانطلاق من تاريخنا في العمل من أجل استعادة وعينا والحيلولة دون مزيد من السقوط في حاضرنا ومستقبلنا، إنما لا ينبغي أيضا حصر قضية الذاكرة التاريخية في نطاق عمل موسمي يرتبط بأيام معينة والتذكير بها، فالمهم هو ألا نصل في هذه الغربة التاريخية الخطيرة إلى درجة التساؤل، كما بات يصنع كثير منا ولا يجد جوابا:

– متى حرّر صلاح الدين القدس.

– أو في أي عام فتحها عمر الفاروق.

– أو متى استشهد القائد الفلسطيني موسى الحسيني.

– أو متى كانت موقعة عين جالوت.

– أو متى وقعت الثورة الكبرى ضد الانتداب البريطاني؟

ثم من الضروري التأكيد أن مسألة الأيام التاريخية مجرد مثال على ما ينبغي صنعه للوصول إلى الغاية الأعمّ، وهي إحياء الذاكرة التاريخية في قضية فلسطين -وسواها- كمهمة مصيرية لا يمكن انتظار أدائها من جانب من يساهم في التعتيم على القضية والانحراف بها، من الغارقين، أو المهرولين، أو المطبعين، أو سوى ذلك من النعوت التي يستخدمها في وصفهم فريق من أهل الفكر والأدب والإعلام والثقافة بأسلوب التنديد والإدانة، فهؤلاء غارقون في أيام أخرى، من قبيل أوسلو وما تلاها، وفي صناعة أحداث على دروب متشعبة من قبيل اللقاء مع أمثال بيجين وبيريس ومن تلاهما.

ولكن ألا ينبغي أن نخرج من الحلقة المفرغة التي أدخلنا أنفسنا فيها واقعيا من خلال تحويل العمل للقضية إلى مجرد عملية تنديد وإدانة لمن يعمل للسقوط بها على منحدر التنازلات؟

ألا ينبغي العمل بمختلف الوسائل للحفاظ على ذاكرتنا التاريخية ونقلها حرفا بحرف، وذكرى بذكرى، وموقفا بموقف، واسما باسم، وحدثا بحدث، إلى جيل جديد قادم، إما أن يربط ماضينا بمستقبلنا، ويصحح الاعوجاج في مسيرة قضايانا الكبرى، أو أن يسقط في هاوية سحيقة من الضياع والعجز، وآنذاك تكون المسؤولية عن السقوط، مشتركة بينه وبين من أورثه التنازلات وتسويغها بتشويه التاريخ، وكذلك من اكتفى الآن، في اللحظة التاريخية الراهنة، بإدانة التنازلات، وبالشكوى من تزييف التاريخ وتشويهه، وهو قادر على أداء قسط أكبر من الواجب ولم يفعل.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

التاريخالتغييرفلسطين