اعتقال شعب مصر

الاستبداد يصنع أسباب الثورة

خواطر

مع كل التقدير لكافة الشعوب العربية والإسلامية، وللنسبة العالية فيها جميعا من الأكفاء المخلصين والعلماء المتخصصين والدعاة والأدباء والمفكرين والإعلاميين، فإنّ مصر التي يطلق عليها أهلها وصف “أمّ الدنيا” تعبيرا عن حبهم لها، تأتي في المرتبة الأولى على معظم هذه الأصعدة، إضافة إلى موقعها المتميز بين مشرق العالم العربي والإسلامي ومغربه، وإلى حقيقة أنّ الانتصارات الكبرى في التاريخ كانت عند التقائها هي مع بلاد الشام يدا واحدة في وجه النائبات، لتدحر الصليبيين تارة والمغول أخرى، كما أنّه لا يكاد يختلف اثنان في القول إنّ الإصلاح الحقيقي إذا شقّ طريقه في أرض مصر اليوم سرى في كافة البلدان العربية فالإسلامية بتأثيرها، مثلما أنّ الهجمة الغربية على مصر ووجود من تجاوب معها تغريبا وانحرافا جعل منها المنطلق منذ أكثر من قرن ونصف القرن إلى ما أوصل المنطقة بمجموعها إلى الانهيار والهزائم والنكبات والكوارث والتخلّف والتجزئة.

. . .

مصر في المقدّمة، ليس من خلال أوهام يزيّفها إعلام مكشوف موجّه، وليس من خلال تمنيات قد تصدر عن محبة “أم الدنيا”، بل هي في المقدّمة بقدر ما تكون هي نموذجا يُحتذى على صعيد الحريات والبناء، والحقوق والتقدّم، والعدالة والانتصارات، والأمن والغذاء، والهوية المتميزة والإبداع، ويستحيل فصل شيء من ذلك عن بقية الأشياء، فنهوض الأمم ليس لعبة توجهها الأهواء ويصنعها التضليل، إنّما هو بناء متكامل بين مختلف تلك الجوانب وسواها ممّا تتحقّق به النهضة الحقيقية.

مصر في المقدمة.. أو يمكن أن تكون في المقدمة عربيا وإسلاميا وعالميا إذا حققت الشروط، ولا يحققها الاستبداد قطعا إنما يحققها الأعزة الأحرار، ومن يرتضيهم الشعب الحرّ العزيز بملء إرادته من الحكام.. فيا أيها المستبدون الظالمون:

علام تمنعون مصر من أن تكون في المقدمة عربيا وإسلاميا وعالميا؟

علام تعتقلون مصر أيها المستبدون مغتصبو السلطة وهي “أمّ الدنيا” وشعبَ مصر وهو القادر على أن يجعل بلده في المقدّمة في أرجاء هذه الدنيا؟!

علام تعتقلون شبابه وفتياته، رجاله ونساءه، علماءه ومفكّريه، حركاته وأحزابه، نقاباته واتحاداته، ثرواته وعطاءاته؟

علام تعتقلون مصر وشعبها بدلا من أن تطلقوا يديه ليصنع واقعا جديدا ومستقبلا جديدا، وأنتم على كل حال راحلون، شئتم أم أبيتم.. عاجلا أو آجلا؟

علام تجعلون من أنفسكم حرّاس سجون بدلا من زعماء تحرير ووحدة، وأدوات لضرب الطاقات الخيرة المعطاءة المتفجّرة في أرض مصر، بدلا من قادة نهوض وتقدم، وجمرات توقد مراجل الغضب بدلا من قادة عادلين وساسة حقيقيين؟

لقد أصبح حتى الإضراب عن العمل والدعوة إليه طلبا لحقوق منتهكة جريمة.. فهل كان يوما من الأيام جريمة إلا في نظر سدنة جحور الاستبداد الضيّقة ونوافذها المغلقة؟

أصبحت المظاهرات من أجل لقمة العيش جريمة.. فهل هي أكبر من جريمة من يحرم أهل مصر من كفاية اللقمة وحرية الكلمة؟

أصبح التطلّع لدعم الإخوة في فلسطين المجاورة جريمة.. فهل من جريمة أكبر من الدفاع عن العدو بطشا بأهل مصر وهو يبطش بأهل فلسطين؟

لن تصنع السياسةَ والعدالةَ مظاهرُ عنجهية عظمة استبدادية كاذبة ولا جولات في أنحاء الدنيا لا يهتم بها إلا من يريدون أن تبقى هالةُ وهم الزعامة المصطنعة في خدمتهم هم، بديلا عن الإنجاز الحقيقي المطلوب في خدمة الشعوب. إنّما يصنع السياسة أهلُها الذين يولدون في رحم حرية الشعب وإرادته وعزّته وكرامته، دون “عملية قيصرية”، وكم صنع السياسة مع العدالة قادة لم يبقوا في السلطة سوى عام أو بضعة أعوام، وتابعها من أتى بعدهم، وكم صنع الكوارث من ساروا على دروب النمرود ونيرو وستالين وهتلر، فما خلّفوا وراءهم سوى الدمار واللعنات.. وما خلدت كراسيهم ولا خلدوا فوقها ولا من بعد تساقطها!

ما سرّ ذلك الكرسي الذي يتشبّث به المستبدون في مصر عبر حالة الطوارئ المزمنة، والأنظمة والقوانين المصطنعة الشاذة، وتقديم كلّ انتهازي لا تهمّه سوى مطامعه الشخصية الزائلة، وخدمة كلّ عدوّ لا يضمر لمصر وأهلها والمنطقة وقضاياها وحتى لأولئك المستبدين أنفسهم من الودّ إلا ما يوظّف السمّ في الدسم لتحقيق مآربه، وتنفيذ مخططاته؟

ما سرّ ذلك الكرسي الذي يجعلهم يبحثون بين ثمانين مليونا عن بضع مئات أو بضعة ألوف من الفاسدين المفسدين فيقرّبونهم ويعتمدون عليهم حول كرسيّهم، وهم لا يأبهون بمصلحة ولا خطوة بناء صائبة واحدة، ما دامت قيمة ما في جيوبهم أكبر في رؤوسهم من قيمة مصر وأهلها وحضارتها وتاريخها وواقعها ومستقبلها؟

ما سرّ ذلك الكرسي الذي يجعلهم يستعيضون عن القضاة العادلين والعلماء الصادقين وما أكثرهم في مصر، بمن يختارونهم من منحرفين جفاة قساة، جاهلين بحروف كلمة العدالة وكلمة العلم وتبعاته وحقه، فإذا بهم لا دور لهم سوى تنفيذ ما يريد الجلاد منهم لا العدالة ولا العقيدة، وما يضرّ بالبلاد كلّها وليس بالمعتقلين والمحكومين أحكاما جائرة فقط. 

لا يدور الحديث هنا عن الإخوان المسلمين بالذات، وإن كان هؤلاء جزءا من الشعب، تجب مناصرتهم ساعة الظلم، فلهم مثل ما لغيرهم من حقوق يُحرمون منها، ويجب رفع الضيم عنهم، كسواهم، إنّما بات لاعتقال شعب مصر كلّه، ألف وسيلة ووسيلة، بدءا بالمساكن ما بين المقابر وقد أصبحت مدنا كبيرة بحجمها لا بواقع الحياة البائسة فيها فقط، مرورا بالجوع والحرمان خارج نطاقها أيضا، وألوان من البؤس يصنعه الفساد صنعا، انتهاء بكبت الحريات، وإن كانت مجرّد كلمة فاعلة فيما يسمّى العالم الافتراضي! 

. . .

مصر تغلي غليانا خطيرا في هذه الأيام (٢٠٠٨م) وما أشدّ ما نخشى على مصر من الغليان في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ بلادنا؛ مصر تغلي وتوشك على الانفجار، وليس من مصلحة المستبدين في مصر أنفسهم، وليس من مصلحة المستبدين في أي بلد من البلدان أن تتحول الهوة الكبرى التي صنعوها بينهم وبين الشعوب إلى مصدر حريق يأكل الأخضر واليابس، وليس من مصلحة مصر أن يتحول ما يسمى الاستقرار -وما هو باستقرار ما دام القمع أساسه- إلى مواجهات تحول شوارع مصر إلى ساحة للمعارك، والعدو يتربص بمصر وأهلها الدوائر من كل اتجاه.

إذا ثار شعب مصر فلن تقف في وجهه أجناد مجندة، ولا خراطيم مياه وغازات وهراوات واعتداءات على الكرامات وسجون ومعتقلات ومحاكم صورية، ثم تصريحات خرقاء تُطلق على الملأ، فتتجاهل وجود الشعب نفسه وهي تتجاهل ما يجري على أرضه!

لن ينفع آنذاك ارتباط بأي معاهدة غير مشروعة مع عدو فاسق، ولن تتحوّل آنذاك مصر إلى معتقل كبير ولا صغير، فانفجار الشعوب لا يمكن وقفه مهما تفنّن المستبدّون في القمع بمختلف أشكاله، بل ستجد الشعوب دوما الوسائل لمتابعة الطريق.

أما آن الأوان أن يبلغ أولئك “الحكام” سنّ الرشد.. أو بعض الرشد في تقويم حقيقة الأوضاع التي صنعوها؟

عشرات السنين.. لم يصلوا خلالها إلى استقرار حقيقي حتى لأنفسهم، ولا حققوا للبلد وأهله تقدّما، ولا أنقذوه من فقر يتفاقم، ومشكلات تتراكم، وغضب عارم يحتقن، ويضع البلاد على حافة الهاوية، ما بين طريقين خطيرين، طريق الاعتقال الاستبدادي القاتل، وطريق انفجار شعبي عارم جارف، وقد لا يملك أهل مصر يوما ما أن يختاروا بين هذا وذاك، فيصبح الانفجار حتما محتوما، فليحذر منه أولئك الذين قد يكونون هم أوّل من يجرفهم مع كراسيهم.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

الاستبدادالنهوضمصر