تحليل
يقول الله تعالى في كتابه الكريم:
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم} -الآية ٢٢: سورة إبراهيم-
ندع جانبا من يوزع اللوم على الجميع إلا نفسه، ويندب الواقع إلا واقعه، ولا يفيد تبرير الأخطاء الذاتية؛ ومن أخطر خطايانا الأمل في غير موضعه، فتفاجئنا خيبات الأمل، وأخطر من ذلك أن نفقد الأمل في أي لحظة من اللحظات.
* * *
خطايانا في عطاء الأقلام
البداية مع بعض أساتذتنا، من أصحاب الأقلام من علماء ودعاة ومفكرين وأدباء وشعراء ومشاهير الإعلاميين وأمثالهم؛ فقبل الثورة كان عطاء الأقلام الفذة كبيرا، ولكن لم يشمل -إلا نادرا- عطاءات إحياء الوجدان لمواجهة الاستبداد تحديدا ولم يشمل -ربما إطلاقا- أطروحات التنظير لثورة على الاستبداد، فكيف يستقيم هذا مع لوم صنّاع الثورة الشعبية العفوية بكلمات من قبيل: كيف تصنعون ثورة دون تعبئة ودون تخطيط؟
وبلغ عمر الثورة ما بلغ، وأعطى الشعب ما لا يتصوره العقلانيون من تضحيات ومعاناة وبطولات؛ أما كان من المفروض بأقلامنا أن تغادر ما يسمّى البرج العاجي وترافق أهلنا الثائرين بكل فنون العطاء الوجداني والتوجيهي، وكذلك بالتخطيط، الذي ننتقد غيابه؟ وما الذي يعنيه أن نطالبهم بصنع ما نقول دون أن نتجاوز كلمات تعميمية؟
هذه صورة كاريكاتورية، يضاف إليها ما نردد بأقلامنا وألسنتنا باستمرار: يجب أن تتوحدوا، يجب أن تتوسطوا، يجب أن تعتدلوا، ولكن بصيغة اللوم والتجريح، وأحيانا التنصل من المسؤولية الذاتية.
من أكبر الأعباء على الثورة الشعبية العفوية في سورية غياب أصحاب العلم والفكر والقلم عن التخطيط سابقا ولاحقا، وعن التوجيه القويم بعد انطلاقها، فضلا عن لهجة التعالي على الآخرين، ولعل جوهر خطايانا في عالم أصحاب الأقلام: الغرور بما لا نصنع.
* * *
خطايانا في عالم السياسة
(١) مع استثناءات محدودة، لا ننقطع عن القول:
إن الاستبداد يمارس استبداده الإجرامي منذ خمسين سنة…
ولا نزال نتجنب القول:
لقد عشنا بأنفسنا حالة غيبوبة سياسية زهاء خمسين سنة، إلا إذا اعتبرنا السياسة هي التحرك في حدود قنوات يسمح الاستبداد بها أو لمساومته على صلح، أو الكلام دون أفعال.
(٢) لم تستأذن الثورة الاستبداد، وقد عايشنا كيف أصبح محور سياستنا الحرص على الإمساك بزمامها دون استئذانها، فكم من التناقض يكمن في تبرير العجز السياسي بسبب سطوة الاستبداد، وبين ادعاء القدرة على ممارسة الزعامة السياسية للثورة ضدّ الاستبداد!
(٣) هذا التناقض اختزل إنجازاتنا السياسية الأولى في تسابق على عقد مؤتمرات مرتجلة تتطلع إلى السلطة بعد التوهم أن رأس الاستبداد الفاسد سيسقط خلال أيام كما كان في تونس ومصر.
كيف نمسك سياسيا بالسلطة ونحن نقول: حرمنا الاستبداد من الخبرة السياسية لعدة عقود!
(٤) وأخطر من ذلك:
١- تبنّي مطالب سياسية دولية وإقليمية لصنع قوالب سياسية نحشر فيها الثوار وفقا للمآرب الدولية والإقليمية.
٢- اعتقال الإبداع السياسي في المحاصصة لتوزيع مناصب لا نفوذ لها.
٣- اختزال الإنجاز السياسي في مؤتمرات ومفاوضات واستعراضات تلفازية.
٤- ثم ربط إنجازات مطلوبة أخرى -كالمجالس المحلية والدعم الإغاثي والأطروحات الاقتصادية المستقبلية- بقيود محاصصات وتنازلات واستعراض عضلات إعلامية.
٥- الاعتراف المتكرر بهذا الوضع السياسي المريض، ولكن دون علاجه، ومع التشبث بممارسة زعامة سياسية رغم الإصابة المرضية.
إن جوهر خطايانا في عالم السياسة: الأنانيات المتصارعة على لا شيء.
* * *
خطايانا في دعم الثورة
كان حرصنا كبيرا على الإشادة بما نصنع دعما للثورة، وتغييب إنجازات ألف جهة وجهة أخرى، خارج الوضع السياسي المريض.
وقد كان من أعظم إنجازات الثورة إسهامها في إعادة تصنيع الإنسان السوري في المنافي أيضا وليس في أتون المعاناة الداخلي فقط، وكنّا قبل الثورة نستمرئ ديمومة الغربة أو نسلّم بها، فتحولت المغتربات نفسيا -وليس ماديا فقط- إلى مواطن نهائية، وبدّلت الثورة التاريخية واقعنا هذا جزئيا، ولكن أغفلنا عن توظيف كثير ممّا كان مؤهلا لتحقيق إنجازات أكبر، وشغلنا تأثير الانتماءات والتوجهات والتمويل على أعمال الدعم فأصبحت أسواقا متعددة، تتجاور فيها التنظيمات العاملة في ميدان واحد وفي مدينة واحدة أحيانا، في سباق يحفزه الولاء على حساب تحقيق الأفضل للأهل في الوطن الثائر وعلى الحدود.
ولكن ترتبط الخطايا الأكبر في ميادين الدعم بأمور أخرى، لا يحسن التفصيل فيها فيكفي التنويه بمثالين:
(١) كان يفترض أن نعلم من واقع الخبرة والمعرفة في الغربة تحديدا أن حالة الثورات وما يشابهها سيشمل ظهور قنوات فساد في كل ميدان من الميادين الإغاثية وما شابهها، وبدلا من توظيف الخبرة والمعرفة في التعامل مع الواقع لتخفيف ضرره، تركناه (فيما عدا الشكوى منه) لتطور عشوائي سلبي، ساهم في انتشار الإحجام عن مزيد من العطاء الممكن والمفروض.
(٢) كان يفترض أن نعلم مسبقا أن الأخطبوط الاستبدادي الإجرامي سيصنع كل ما يستطيع ليجعل من حجم المعاناة مدخلا إلى استنفاذ طاقات الداعمين مهما بلغت، ولم يقابل ذلك ما يكفي من الجهد لتطبيق ما نعلمه في عوالم الاغتراب، مثل ترتيب الأولويات والتركيز على المساعدة للمساعدة الذاتية وتأمين الشفافية ودعم انتشار المشاريع الصغيرة بدلا من الكبيرة ذات البريق الدعائي.
هذا علاوة على التخطيط والتنسيق والفصل بين ما تسببه أنانيات خطيرة في الواقع السياسي وبين ما يحتاجه العمل الإغاثي من أخلاقيات الإيثار والعطاء الإنسانية.
إن جوهر خطايانا في دعم الثورة: هدر قسط من العطاء الكبير رغم وجود معطيات كافية لمنع الهدر.
* * *
خطايانا في قلب الثورة
يصعب سكب المداد في التعرض لأخطاء من يسكبون الدماء، لولا أنهم هم أنفسهم يشكون ويألمون لا سيما بعد ما وقع من أحداث نتيجة الفرقة إلى درجة الاقتتال أحيانا.
الفارق كبير بين خطايانا في عالم الفكر والقلم والسياسة والدعم وخطايانا في قلب الثورة، ولا يوجد ما يمكن قبوله عذرا لشيء من ذلك، ولكن غياب الأخطاء مستحيل في مسار ثوري شهد فترات انحسار وانكسار ونكسات، وشهد أيضا التقدم والانتصارات والبطولات.
الخطأ الأكبر هو استمرار الفصائلية في تعدد هائل، لا تجري محاولات الحد منه إلا تحت الضغوط الميدانية الكبيرة. إن افتقاد التنسيق والتعاون والتنظيم المشترك أفقدنا أيضا:
١- تكامل الخبرات الأمنية المتوافرة بدلا من نشأة أجهزة أمن فصائلية تخدم التنافس والاقتتال أحيانا
٢- تكامل الخدمات تجاه الحاضنة الشعبية التي تدفع الثمن الأكبر للتحرر
٣- تكامل التأثير الثوري على الداعمين والممولين، وفي مواجهة قنوات الفساد الاستغلالية اللاإنسانية
٤- تكامل جهود رفع مستوى الوعي السياسي الثوري بدلا من ولادة عشرات الرؤى السياسية
الحصيلة هي غياب القدرة الثورية الداخلية على فرض الرؤية السياسية الثورية على المحافل الخارجية جميعا، وهنا لا تكفي الأهداف الكبرى التعميمية الجامعة.
إن جوهر خطايانا في قلب الثورة عدم تحول قلوبنا الدامية مع أجساد الضحايا إلى قلب واحد وجسد واحد.
* * *
مستقبل الثورة التغييرية
الأهم من كل ما سبق:
الخطأ الأعظم هو إيجاد عذر لأنفسنا في التوقف مجددا عن الحركة بعد أن حركت الثورة عجلة التغيير وكان الضحايا يقدمون أجسادهم وأرواحهم من أجل ذلك.
(١) لو بقي مسار الثورة خاليا من الأخطاء لوجب القول إنها ليست من صنع البشر.
ولا يجيبن أحد بالقول إنها ثورة ترعاها يد الله وتُصنع على عينه، فهذا صحيح ولكن علمنا الوحي من لدن العزيز القدير أنه يرعى صناعة الحدث عبر الأسباب التي يصنعها الإنسان بنفسه، وبعد ذلك يأتي مفعول التوكل والدعاء، وجميع ذلك تحيط به مشيئة الله عز وجل.
(٢) إن التغيير هو جوهر الثورة ومغزاها وهدفها وحصيلتها ومعيار نجاحها أو إخفاقها.
(٣) إن التغيير الذي نتأسى به عقديا وحضاريا ومنطقيا وتاريخيا -أي مهما تعددت انتماءاتنا- هو التغيير الذي بدأ بكلمة (اقرأ) وعبر صرخة (أحدٌ أحد) ومرّ بمحطة بدر، فمحطات أحد وحنين، ثم محطة الفتح، وأحاطت بهذه المحطات عملية (بناء) المجتمع الأول المشترك، ثم قفز إلى محطات اليرموك والقادسية وأخواتها، حتى وصل إلى الشاشان وأخواتها، بعد رحيل صانع التغيير صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه ببضع عشرة سنة، ثم وصل إلى (مدرسة المأمون) الحضارية و(مدارس الأندلس) وتابع المسير حضاريا صعودا وهبوطا.
(٤) من لا يضع الثورة الشعبية في قلب مسارها التاريخي الحضاري الكبير، لا يمكن أن يصنع -كما ينبغي- النصر المطلوب في المرحلة الراهنة من مراحل التغيير الكبير الذي اندلعت الثورة لتصنعه.
(٥) كم من فراعنة وقوارين صغار سقطوا مع ملئهم قبل هذا “الصغير” وملئه في سورية، ولم يحدث التغيير الجذري في بلادنا وعالمنا وعصرنا، فلا مناص من استيعاب الثورة التغييرة أنها عملية تشييد البناء، وليس صناعة السقوط، فلا نكوص بسبب النكسات.
إن الأسباب التي نحمل مسؤولية اتخاذها وتأمينها وتنميتها والتحرك بمقتضاها، هي أسباب القدرة على البناء، وهي من حتميات العمل لإزالة العقبة القائمة في طريق البناء: الأخطبوط الاستبدادي الفاسد الهمجي الشاذ في مجرى الحياة البشرية الإنسانية.
(٦) القدرة الثورية الجماعية على البناء التاريخي تساوي مجموع قدرة عدد كاف من البشر من الإنسان القادر على البناء، (ونتحدث هنا عن الإنسان السوري ولا نقف عند حدود سورية بالضرورة) وهذا الإنسان بالذات هو ما تصنعه الثورة بانتصاراتها وانتكاساتها من خامات ما نشأ وراء قضبان الاستبداد وفي المنافي، رغم همجية الاستبداد ورغم رفاهية المنافي.
(٧) من كان يسأل عن مستقبل الثورة في شهورها السلمية الأولى كان يسأل غالبا عن لحظة تنحي المستبد الفاجر أو هروبه، ثم غدا السؤال عن لحظة اعتقاله أو مقتله، ثم غدا السؤال عن انهيار بقايا نظامه، ويراد حصر السؤال الآن في حدود موقعه من تسويات دولية، والمساومة عليه مع همجية حلفائه وما يقبلون به ثمنا لتخلي أسلحتهم وميليشياتهم عن وجوده وقد أصبح أشد ضررا عليهم من إغراقه في بحر دماء، وهم يريقونها باسمه.
(٨) جميع هذه الحالات والمراحل تقول: الثورة ماضية، ولكن لا تتجاوز هذه الكلمات حدود تشخيص اللحظة الآنية من مسار الثورة، أما من أراد أن يسأل عن مستقبل الثورة، وفق أهدافها ومغزاها وحصيلتها التاريخية الحتمية، فوجب أن يسأل عن مدى التقدم أو التأخر في صناعة إنسان التغيير والبناء من خلال مسلسل أحداثها والتعامل معها، السلبية والإيجابية على السواء.
(٩) من يربط سؤاله عن مستقبل الثورة بلحظة زمنية معينة، وينطلق -وهذا مفهوم بشريا- من تأثير محنة المعاناة المتفاقمة، فيتساءل: حتى متى؟ لن يجد جوابا قاطعا؛ إن لحظة البناء لا تبدأ مع لحظة انتهاء المعاناة، ولا مع لحظة السقوط بل تبدأ بمعزل عن ذلك -على أهميته- عند وجود العدد الكافي من النماذج الإنسانية المطلوبة للشروع في عملية البناء.
(١٠) هذا ما قطعت الثورة شوطا بعيدا على طريقه، أي على المنحنى التصاعدي في إنتاج إنسان التغيير، وستتمكن بعون الله من قطع الشوط الباقي، ومع بلوغ ذلك المنحنى التصاعدي لحظة مفصلية معينة، تبدأ فعاليته بالظهور بقوة، وتتبدل مشاهد مسار التغيير الثوري تدريجيا:
فتسود غلبة توحيد الصفوف على التفرقة مع كل أضرارها وخطاياها
وتسود غلبة توظيف الكفاءات على المحاصصة مع كل سلبياتها ونكساتها
وتسود غلبة العمل التخصصي وتراكم نتائجه وتكامل ميادينه على الجهود العشوائية وما ينخر فيها من أعراض مرضية
ويسود غير ذلك مما يرتبط ارتباطا مباشرا بصناعة الإنسان. ولا زلنا في حاجة إلى المزيد من النماذج الثورية التغييرية وإلى تكامل جهودهم على طريق صناعة أسباب النصر وأسباب التغيير الجذري الشامل، وما ذلك على الله بعزيز.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} -آية ٥١ سورة غافر-
وأستودعكم الله على طريق التغيير ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب