تحليل
يحسن التنويه لبعض الأمور في مقدمة الحديث تحت عنوان استهداف السعودية، لعدة أسباب، أهمها:
١- أوضاع بلادنا والأنظمة فيها متردية في كل مكان وعلى كل صعيد، وقضايانا المصيرية معرضة لأفدح الأخطار، ولا يراد ترك انطباع محتمل أن الحديث عن أحد البلدان ونظامه يمثل خللا في الأولويات، ولكن التردد يفقد مغزاه، عندما يصبح السكوت أخطر من الكلام.
٢- عندما يكون أحد بلادنا مستهدفا، ولا نجد في سياساته وممارساته الرسمية ما يمكن الاعتماد عليه لتأييده في مواجهة الاستهداف، تصبح الغاية من الكتابة والنشر عسيرة التحقيق، فهي في الأصل بيان الخطر من أجل مواجهته، وليس توجيه لوم أو بيان مسؤولية طرف من الأطراف فحسب.
٣- الكتابة واجبة، ورغم ذلك تقتصر الفقرات التالية على ملامح عامة بأسلوب برقي بأفكار لا تتعلق بالسعودية وحدها، ولكن أمرها حاليا أهم من بلدان أخرى مستهدفة مثلها، وتمارس سياسات مشابهة لسياساتها أيضا.
طبيعة الاستهداف والحصانة الذاتية
١- جميع بلادنا مستهدفة، وبعضها مستهدف أكثر من سواه، بسبب موقعه أو ثروته أو التركيبة السكانية فيه، أو سوى ذلك، فالمهم هو ما يخدم استمرارية معادلة قبضة الهيمنة ورضوخ التبعية في عالمنا المعاصر.
٢- لا توجد حصانة لبلد ما إلا بقدر ما فيه من أدوات التحصين الذاتية، سواء كان سلاحا رادعا أو اقتصادا قويا، أو علاقات دولية مدروسة ومصلحية فاعلة.
٣- ليست أدوات التحصين الذاتي فعالة إلا بقدر ما يتوافر من نسيج داخلي متين للطاقات الذاتية، وفي مقدمتها الالتحام بين الشعب والسلطة، والقدرة على إدارة الدولة، ويشهد على ذلك مثال تركيا في مواجهة محاولة الانقلاب العسكري التي أخفقت في منتصف عام ٢٠١٦م.
٤- إخفاق بعض عمليات الاستهداف التنفيذية لا يعني نهايته، بل تستمر المحاولات وإن ضعفت احتمالات تحقيق أغراض الاستهداف نسبيا.
٥- لا يجدي في التحصين إطلاقا الاطمئنان إلى أحضان قوة دولية، وهو ما أصبح الإقرار به -للأسف- معلنا مثل انتشار عبارة دولة موالية للغرب أو للولايات المتحدة الأمريكية، وكأن التصريح بالتبعية يخفف من حقيقة أنها جريمة سياسية من العيار الأول.
هذه مقدمة لبيان طبيعة المشكلة في استهداف السعودية، مثلها في ذلك مثل مصر، أو الإمارات، أو الأردن، أو سواها، إذ يبقى الاستهداف في حالة كمون، ثم يطفو على السطح، ويرتبط ذلك بالسياسات الذاتية، ويرتبط ارتباطا أكبر بما يمليه تطور الأولويات في سياسات القوى الأجنبية التي تستهدف بلادنا.
علام تُستهدف السعودية الآن؟
١- يبدو أن ما يرتبط بالسعودية حاليا هو حصيلة تطورات كبرى على عدة محاور، يطول الحديث عنها، فمنها ما يمتد إلى العلاقات الأوروبية – الأمريكية وتقلباتها، وما يتعلق بمستقبل سياسات الطاقة وتأمينها، فضلا عن التمكين الأمريكي لمشروع الهيمنة الإيراني واستغلال ما يعنيه التنافس الإقليمي بينه وبين المشروع الصهيوني.
٢- أهم تلك المحاور للتطورات الكبرى هو الانتقال إلى مرحلة جديدة بالغة الخطورة في مسار المشروع الاستيطاني للثكنة الصهيوأمريكية في القلب من المنطقة العربية والإسلامية برمتها.
٣- لا يقتصر ذلك إطلاقا على المشهد الآني، فهو حلقة، سبق التمهيد لها في عهود رؤساء أمريكيين سابقين، عبر محطات مبادرة فاس ومدريد وكامب ديفيد وأوسلو وغيرها.
٤- حتى لو كان النظام السعودي مستعدا للمشاركة المباشرة في تصفية القضية، يدرك صناع القرار الغربي، لا سيما الأمريكي، أن الإخراج جزء من التخطيط، فلا بد من تسويق المشاركة لتظهر نتيجة ضغوط علنية كبرى، وهو ما سبق صنعه في محطات أخرى من تاريخ القضية المحورية.
٥- تتجلى الضغوط تجاه السعودية حاليا عبر وسائل عديدة، مثل التهديد المالي من خلال دعاوى التعويضات بذريعة تفجيرات نيويورك وواشنطون، والتهديد الاقتصادي عبر لعبة رفع الأسعار النفطية وتخفيضها، والتهديد السياسي والقانوني الدولي عبر تحول دعم الحرب في اليمن إلى التشهير بما يجري خلالها، والتهديد الاستراتيجي في لعبة الصراع على النفوذ ما بين مشروعي الهيمنة الإيراني والصهيوني.
٦- لا ينفصل محور قضية فلسطين عن محور التحرك المضاد للثورات الشعبية، فالصورة الاستعراضية لسفك الدماء دون عقاب، والضجة السياسية الدولية دون حساب، وتمرير أبشع الفظائع الإجرامية في الفوضى الهدامة المعلنة رسميا.. جميع ذلك يؤكد لكل دولة تُستهدف بعد أخرى، ومن ذلك السعودية، أن الإجرام ليس له حدود، وأن سياسة الهيمنة المعاصرة ليس لها قيم ولا أخلاق.
ماذا يعني استهداف السعودية؟
١- يتميز استهداف السعودية بوجود المقدسات الإسلامية داخل حدودها، فاستهدافها استهداف لعامة المسلمين وهو الوجه الآخر من الميدالية مع استهداف فلسطين بوجود أولى القبلتين فيها.
٢- استهداف السعودية يجري عبر تغيير البنية الهيكلية للدولة التي قامت بعد الحرب العالمية الأولى، ويبدو أن صناع الاستراتيجيات والمخططات الأمريكية يرون أنها استنفذت أغراضها، وأصبحت المرحلة التالية تتطلب، بنية أخرى، جغرافيا بالتقسيم، واقتصاديا عبر أدوات الحصار أو الابتزاز المالي والاقتصادي، واجتماعيا بكسر المنظومة المفروضة في العقود الماضية لصالح منظومة مفروضة أخرى، وسياسيا عبر كسر المحرمات السياسية التي حفظت لسلطة “العائلة المالكة” بقاءها واستمراريتها حتى الآن.
٣- كل استهداف أجنبي لأي دولة من الدول يعتمد أول ما يعتمد على مرتكزات داخلية، يتم إعدادها على مدى طويل من الزمن، كما اتضح للعيان مؤخرا من مثال جماعة “غولن” في تركيا، وهو ما أخذ في السعودية طوال العقود الماضية صيغة صناعة فئات توصف بالليبرالية مقابل فئات توصف بالإسلامية المتشددة.
٤- أخطر ما في استهداف السعودية في الوقت الحاضر أن تنفيذ أغراض الاستهداف يجري مباشرة وعلنا من جانب أطراف هم من البنية الهيكلية للنظام القائم في السعودية في الأصل، ولكن لن يكونوا في منجاة من الاستهداف مستقبلا أيضا، تطويعا لتنفيذ مهام أخطر مما يجري حاليا، أو للاستغناء عن خدماتهم في مرحلة نفاذ صلاحيتهم لما يصنعون.
وتبقى ملاحظة مستقبلية:
إن تحقيق أغراض استهداف السعودية يفتح أبواب مخاطر أكبر مما شهدته بلادنا في العقود الماضية بكثير، ولا يمكن أن ينجو منه بلد من البلدان، وهذا ما بدأ يشهد عليه مثلا ما يسود في نظام الأردن من قلق مفاجئ، أو ما بدأ يسقط من أوهام دور إقليمي جديد للانقلابيين في مصر.
هذا بمجموعه يبين أن القوى المهيمنة دوليا، ولا سيما الأمريكية منها، لا تكتفي بدرجة من درجات التبعية، بل تريدها تبعية مطلقة، لا سيما وأن الثورات الشعبية تؤكد أن كل نظام استبدادي لا بد أن يزول، فحسابات الهيمنة تستبق وصوله إلى مرحلة الاهتراء الأخيرة بالعمل على إيجاد بديل يتابع مهمته لعقود أخرى من الزمن.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب