قال يوم تنصيبه رئيسا لبلده و”بعبعا” جديدا على المسرح العالمي: “أمريكا أولا!” وهل كانت في يوم من الأيام عند أي رئيس أمريكي سابق إلا “أولا وأخيرا”؟! إنما يتغير الأسلوب والوسائل وليس المنطلق والهدف. وما زال أساطنة السياسة في بلادنا العربية والإسلامية – وما يزال بعضنا على مستوى الشعوب العربية – لا يرفع شعار “وطنه أولا” إلا لغرض أناني لا يتجاوز حدود القبضة الحديدية داخليا دون أن يحطّم قيود الحلقة الشيطانية المفرغة من خضوع التبعية لسياسات أمريكية متبدلة ببعض الأساليب الجديدة في أربع سنوات رئاسية أخرى.
لا نتوقف هنا طويلا لنخوض مع الخائضين بتأثير “عقدة الخواجة” إعجابا أو إنكارا، للتمحيص في مدى مصداقية شعار “أمريكا أولا” في أمريكا نفسها، ومدى فراغه من مضمون كريم بالنسبة إلى عشرات الملايين من سكان أمريكا نفسها، من الفقراء والمحرومين والعاطلين عن العاملين وأصحاب ألوان أخرى أو انتماءات أخرى غير لون بشرة السيد الأمريكي الجديد أو انتماءاته الرأسمالية والعقدية، هذا شأن الأمريكيين وما يصنعون، وجلّ ما يمكن أن يفيد هو التضامن مع مستضعفيهم والتواصل مع العقلاء منهم.
ولكن أين لدينا نحن، في بلادنا ونخبنا وأوساط ذوي التأثير الأدبي والمادي في صفوفنا، أين مَن يطرح شعار “الوطن” أولا ويعطيه المصداقية القويمة، أي تقديم المصلحة الذاتية للشعب في الوطن، والسيادة في الوطن والاستقلال في الوطن والتقدم في الوطن والمعايير الذاتية للعلاقات بالأطراف الأجنبية خارج الوطن، بدلا من تقزيم ذلك الشعار إلى حدود ما يعنيه “تسلّط السلطة” وحمايتها أولا؟!
هل نتابع فعلا متابعة صادقة عميقة وفاعلة ما يجري في بلادنا وكيف نحقق شعار إعطاء الأولوية فيها للشعوب وإرادتها والأوطان ومصالحها، بقدر ما يتابع كثير منا ما يجري في ساحة المهرجانات الانتخابية والتنصيبية في الولايات المتحدة الأمريكية كل أربع سنوات؟
لا تزال “عقدة الخواجة” تنخر كالسوس في كياناتنا الصغيرة والكبيرة، بل تسللت إلى مواقع كثيرة في مسارات ثوراتنا الشعبية، فساهمت في تأخير تحقيق أهدافها لسنوات وسنوات.
وليس في ذلك دعوة إلى عدم الاهتمام بما يجري عالميا لا سيما ما يتعلق بمن يملكون الإمكانات الضخمة لتنفيذ مخططات هيمنتهم عالميا.. ولكن لن نستطيع فهمه واستيعابه، ولا التعامل معه وصدّ مخاطره، إلا عندما نبرأ من أمراضنا الذاتية كمرض “عقدة الخواجة” ونرتفع بأنفسنا أفرادا ومجموعات وفئات شعبية وثورات إلى مستوى “طبيعي” رفيع، يكفي لتقدير قيمة الإنسان في أنفسنا على الأقل، وقيمة تلاقينا على طريق مشترك، وقيمة توحيد أهدافنا على قواسم مشتركة، وقيمة العمل معا على تنمية إمكاناتنا وقدراتنا وكفاءاتنا لنحقق كرامتنا بأنفسنا وحريتنا بأنفسنا والعدالة والأمن لأنفسنا، فلن يصنع ذلك لنا أي “خواجة” من أي لون وأي بلد وأي صنف وأي فصيل من المخلوقات دون استثناء.
نبيل شبيب