استراحة – الموت

مات فلان!

كان بالأمس، بل قبل لحظات، يجول بعينيه فيما حوله.. وشخصت عيناه، تجري الدماء في عروقه.. وجفّت دماؤه، يملأ رئتيه بالهواء.. وتيبّس صدره، انخفضت حرارته، تصلّبت بشرته، تبدّل لونه، فارقت روحه جسده.. مات، توقّف قلبه عن الخفقان.. وكان ينبض بالحياة!

لحظة واحدة من الزمن الجاري من قبله ومن بعده، تفصل ما بين حياته وموته، ووجوده وغيابه، وكلامه وسكوته، وحيويّته وسكينته.. وتفصل ما بين ابتلائه وحسابه!

لحظة واحدة تفصل بينه وبين من أحبّهم ومن يحبّونه، بينه وبين ما كان يضحكه أو يبكيه، ويسرّه أو يحزنه، ويسعده أو يشقيه، ويرجوه أو يخشاه، ويكنزه أو يشتهيه.. مضى وبقي جميع ذلك من الدنيا ومتاع الدنيا وأهل الدنيا من بعده!

مضى ولم يبق شيء له.. أو ربّما بقي له من ذخر الحسنات علم نافع أو صدقة جارية أو دعوة صالحة.

 

مات فلان!

نسمع هذه الكلمة ويكون لها وقع المفاجأة أحيانا، فقد كان شابا في ريعان الشباب، أو كان يتبجّح بصحّته وقوّته، أو كان يظنّ نفسه هو الآمر الناهي المتحكّم في حياة الناس من حوله، نُفاجأ.. وكأنّنا نجهل أنّ الموت يحكمه، ولا يأبه بشبابه أو قوّته أو تجبّره!

مات فتى يافعا أو شابا ناضجا فما عرف في الحياة هرما ولا شيخوخة.. وكان يظنّ أنّه سيبلغ من العمر عتيّا، أو يُمنّي نفسه أن ينساه الموت إذا تناساه!

أو مات شيخا هرما بلغ من العمر ما يناهز قرنا من الزمان دون أن يستوعب أنّه أشبه بذرّة في هباء لا نهاية له.. قد مضت من قبله مئات وألوف من القرون وقد تليه مئات وألوف أخرى من القرون!

مات فلان.. ليحزن أناس عليه حزنا شديدا ولا يأبه آخرون، ولربّما أسرّ بعضهم شيئا من الغبطة والسرور في نفسه، بل قد يشمت بعض الناس وهم غافلون أنّ مصيرهم إلى الموت أيضا..

سبقهم.. وسيلحقون به، آجلا أو عاجلا!

 

مات فلان!

مات بعد أن شاخ فزاد خرفا على خرف، فكان إن حضر تمنّى الناس غيابه، وإن غاب لم يتمنَّ أحد حضوره، إن تكلّم قيل ليته لم يتكلّم، أو سكت قيل ليته يبقى ساكتا.. حتّى إذا مات لربّما خلّف من يُشفق عليه من مصيره بعد الموت، وما خلّف من يتمنّى لو لم يغيّبه الموت!

أو مات بعد أن عمّر طويلا فصار شيخا حكيما وقورا، كلمته سديدة، وطلعته مهيبة، ومكانته عزيزة، تدمع العيون وتأسى القلوب وتفزع العقول لرحيله.. فتشيّعه العيون والقلوب والعقول بالأحزان.. وبالدعاء أن يلقى لدى ربّ كريم من الرحمة والمغفرة ما كان يرجوه للحياة الباقية!

مات فلان.. وكان مكروها في قومه، ثقيل الظلّ في أهله.. وقد يدعو له بالرحمة والمغفرة من يدعو أداءً لواجب، أو من باب الإحسان الكريم إلى مسيءٍ رحل!

أو مات فلان وكان عزيزا في قومه، عزيزا على أهله، يدعو له بالرحمة والمغفرة كلّ من يسمع بموته، حتى وإن لم يلتق به من قبل!

هو الموت، يغيّب الإنسان المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والحيّ من بعد استشهاده، والميّت من قبل أن تلفّه ظلمة قبره!

 

هو الموت

يغيّب من حكم في بلده فأقسط وعدل.. ويغيّب من حكم فأجرم وظلم!

يغيّب من كان أهلا للأمانة وإن أثقلت كاهليه.. ومن صارت خيانة الأمانة وبالا عليه!

يغيّب من يخشى حمل المسؤولية فإن حُمِّلها لم يقصّر ما استطاع إلى أداء تبعاتها سبيلا.. ويغيّب مَن يطلب المسؤولية ليسخّرها في كسب مزيد من الذنوب والآثام واللعنات وغضب خالق الكائنات!

يغيّب من يملك عقلا ومالا وسلطة وجاها، فيجعل من النعمة نقمة على نفسه، ومن أسباب القوّة أدوات للتجبّر في دنياه وطريقا إلى شرِّ مدخلٍ له في آخرته.. كما يغيّب من يملك القليل أو الكثير من عقل ومال وسلطة ومكانة، فيسخّر في خدمة الناس ما ابتلاه به ربّ الناس، ويمتطيه إلى حسن الخاتمة في دنياه ومدخلا كريما لنفسه في آخرته!

مات فلان بعد أن رزقه الله علما فامتهنه بأعمال الجاهلين، أو رزقه الله عقلا فأهانه بغفلة الغافلين، أو رزقه الله مالا فاستبدل بالنعمة فساد المفسدين، أو رزقه الله أهلاً فزيّن لنفسه وأهله باطل المبطلين.. ثمّ فارق دار الابتلاء بالعلم والعقل والمال والأهل إلى دار الحساب، حيث لا ينفعه إلا قلب سليم، وعمل قويم، ولا ينقذه ندمٌ فات أوانه ولا عذرٌ ليروغ به بين يدي من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور!

مات وهو يعلم أو لا يعلم.. أنه كان في دار ابتلاء.. وحلّ موعد الحساب!

 

مات فلان بعد أن تشبّث بكرسي المهالك ثلاثين سنة أو أكثر أو أقلّ، قضاها وهو يستزيد من خلالها ما يجلب على نفسه شرّ المهالك، ظلما للعباد وتفريطا بالبلاد.. ولو كان يقدّر -كما ينبغي- ما ينتظره من هوانٍ في دار الهوان المستديم، لتمنّى لو مات قبل أن يتربّع على كرسي المهالك أو قبل أن تمضي عليه فيه لحظة واحدة!

مات وكان يحاسب على الكلمة كلّ من يتكلّم عمّا آل إليه وضعه في شيخوخته، أو أثقل جسمه من مرض أصابه، أو ذكّره بأجل محتوم آتيه.. وكأنّه إن كسّر الأقلام وزجّ بأصحابها في السجون قادر على تأخير موته لحظة واحدة، أو على الاحتماء منه في بروج مشيّدة!

مات.. وما اعتبر بموته أتباع منافقون فضلّ سعيهم في حياته وضلّ سعيهم بعد مماته وهم يبحثون عمّن يخلفه ليستمرّوا على ما استمرؤوه لأنفسهم من حياة على النفاق، الموت خير منها.. لو كانوا يعلمون!

مات.. وما اعتبر بموته من كان يخشاه فخضع لسطوته مستضعفا نفسه، وكان يحسب استبداده قوّة ومنعة فأطاعه كارها فزاده استبدادا على نفسه، وكان يظنّه باقيا بقاء الخالدين في دنيا الفناء الزائلة، فسيطر القنوط على أوصاله، وعشعش اليأس في نفسه!

مات.. وما اعتبر بموته حكام مستبدّون ماضون إلى حيث مضى!

 

هو الموت..

هيهاتَ يهرب منه أحد من البشر، فإن مات صار في الدنيا من بعده كأن لم يكن فليها من قبل.. صار تحت التراب لا يقوى على دفع ديدان الأرض عن جسمه!

هو الموت..

فمن لم يكن له الموت واعظا، لا تنفعه موعظة الواعظين من الأحياء، ولا ينبغي للعاقلين من الأحياء أن يدعوا أمثاله يتحكّمون في حياتهم وموتهم، وسعادتهم وشقائهم، وأرزاقهم وأولادهم، وقضاياهم وأوطانهم، وحقوقهم وواجباتهم.. قد نسوا أنفسهم ومصائرهم، نسوا الموت، فلم يجعلوا من حياتهم مطية للحياة الباقية في الدار الآخرة، ولم يسخّروا ما يسيطرون عليه من أسباب المسؤولية لحمل المسؤولية بحقّها، والنجاة من أنفسهم في ابتلائهم بها، والأَوْلى لهم وبهم أن يرحلوا عنها الآن، ليحملها من هم أهلٌ لها، من قبل أن يرحّلهم الموت عن الدنيا وما فيها!

هو الموت.. فمن كان الموت له واعظا، فليجعل ممّا بقي له من أيام قبل الموت، حياة عطاء لا يتوقّف، وبذل لا ينقطع، وجهاد لا يهدأ، وطموح إلى كلّ ما يحقق الخير في الدنيا والآخرة..

 

{وَمَا هَـٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} -٦٤: العنكبوت-
{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ۖ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} -٨: النساء-
{أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ ۗ} -٧٨: النساء-
{قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} -١٦٨: آل عمران-
{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} -١٨٥: آل عمران-

نبيل شبيب