كلمة خطابية
تتضمن الكشف المبكر عن الارتباط بين إيران الثورة منذ نشأتها والتسلط الأسدي
وصلت الثورة الإيرانية إلى السلطة في شباط / فبراير ١٩٧٩م، وبدأ ما بات يعرف بأحداث الثمانينات في سورية في حزيران / يونيو ١٩٧٩م وبلغ القمع الاستبدادي هناك مبلغا كبيرا قبل احتفال الثورة الإيرانية السنوي الأول سنة ١٩٨٠م، والذي دعت إليه أكبر عدد ممكن من ممثلي الجماعات والمراكز والاتحادات الإسلامية في أنحاء العالم، بغض النظر عن توجهاتها، وشملت الدعوة المركز الإسلامي في آخن بألمانيا واتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا، وكان كاتب هذه السطور مندوبا لهما، وفوجئ كما فوجئ سواه من الحضور بأن ضيف الشرف في الاحتفالات كان “سورية” أثناء ما عرف لاحقا بأحداث الثمانينات، التي تعاطف المسلمون في أنحاء العالم مع الثائرين فيها آنذاك، فتابعوا بغضب وألم شديدين القمع “الأمني” الهمجي الذي لم يقتصر على من لجؤوا إلى السلاح في محاولة إنهاء الاستبداد القائم في البلاد منذ ١٦ سنة آنذاك.
وقد حضر إلى طهران باسم التسلط الأسدي وزير الأوقاف عبد الستار السيد، ومفتي الجمهورية أحمد كفتارو، وكانت للأول الكلمة الافتتاحية للاحتفالات، ودارت حول الأحداث الجارية في سورية، وبالغ كثيرا في دفاعه عن حافظ الأسد آنذاك، وكيل المديح إليه، وتصويره وكأنه يدافع عن الإسلام والمسلمين، مما سبب أزمة خلال الاحتفالات، ولم يكن كاتب هذه السطور مسجلا للمشاركة في كلمات الوفود، فطلب الكلام، وكانت له الكلمة التالية التي يحتاج من يقرأ نصها الآن استحضار أجواء عام ١٩٨٠م عند إلقائها، عندما طرحت ثورة إيران إسقاط الاستبداد المدعوم أمريكيا وغربيا، ولم تطرح للثورة بعد وجها طائفيا عدوانيا كما ظهر لاحقا، كما راعت صياغة الكلمة أن المتحدث “ضيف” على الاحتفالات، دون أن يمنع ذلك التعبير الواضح عن رفض دعم الاستبداد الدموي في سورية بأي ذريعة، وقد نُشرت الكلمة لاحقا في العدد ٤٢ من مجلة الرائد، الصادر في ربيع الثاني ١٤٠٠هـ وآذار / مارس ١٩٨٠م.
– – –
نص الكلمة الخطابية باسم المركز والاتحاد في الاحتفالات بذكرى الثورة في إيران ألقاها نبيل شبيب
إن الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستغفره، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، ولو كره الطغاة المستكبرون، ولو كره المنافقون الخاسرون.. صلى الله عليك يا رسول الله، وعلى آلك وصحبك وأتباعك بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد أيها الإخوة والأخوات
فإننا لم نحضر لهذا المكان.. لم يرسلنا إخوانكم وأخواتكم من الطلبة والخريجين والعمال المسلمين في أوروبا لنتحدث عن الثورة الإسلامية في إيران، ولا أجد الثورة في حاجة لمن يتحدث عنها، أو يشهد لها، لقد حدثتنا الطاقات المتفجرة التي نراها، وحدثتنا الهتافات الصادقة التي نسمعها، بل وحدثتنا مقابر الشهداء، جنة الزهراء في جنوب طهران، بما لا يحتاج إلى مزيد عليه، وبما استقرت معه في القلب صورة، لا تشوهها حملات إعلامية ضد الثورة، ولم تستطع تلك الحملات من قبل، ضد إيران، وضد الإسلام من خلال الحملة على إيران، أن تشوه ما عرفناه عن الثورة، وسننقل بقلوبنا وألسنتنا بإذن الله ما عشناه في هذه الأيام، إلى إخواننا الذين أرسلونا، من اتحاد الطلبة المسلمين في أوروبا، والمركز الإسلامي في آخن، ومن هؤلاء أحمل إليكم أطيب التحيات وأخلصها، وأجمل التمنيات بالشفاء العاجل لقائد الثورة الإمام آية الله الخميني.
وكان كل من هؤلاء الإخوة -أيها الإخوة الأحبة- يتمنى لو كان معنا بينكم، وهو الآن معنا ومعكم، يجمعنا الطريق المستقل عن الشرق والغرب، كما تعلن الهتافات وتؤكد المواقف، منذ انطلق من مدينة قم، من الموضع الذي زرناه يوم أمس، صوتٌ إسلامي يكرر قبل ستة عشر عاما التحدي للشاه، ولأمريكا من وراء الشاه، ويقول: “إن أمريكا شر من الإنجليز، والإنجليز شر من الأمريكان، والروس شر من كليهما، كلهم شر في شر..”(١)، وبهذا الاستقلال عن الشرق والغرب، سارت الثورة، وهذا هو سر انتصارها واستمرارها، وهو سر تجاوب الشعوب الإسلامية المنكوبة بالطاغوتين وأتباعهما، مع شعب إيران وثورته الإسلامية.
. . .
وشعوبنا الإسلامية تميز كل التمييز بين إسلام المخلصين الأحرار، الإسلام الذي أنزله الله ليطبق ويحكم، وإسلام ترتديه حكومات، أو ترتديه مؤسسات حكومية، أو يرتديه أتباع تلك الحكومات والمؤسسات، ولا يكونون بذلك إلا لبنة في بناء حكم فاسد ظالم، وقد يعتذرون بشتى الأعذار، وشر الأعذار أن يقولوا إنهم ضعفاء، ولهؤلاء يقول العالم الفاضل حسن المدرس رحمه الله: “إذا كان لا بد من فنائنا، فلماذا نوقع وثيقة إبادتنا بأيدينا؟”(٢)، وأذكّر هؤلاء بقول الله عز وجل: {وإذ يتحاجّون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنّا نصيبا من النار. قالوا إنّا كلّ فيها إنّ الله قد حكم بين العباد}.
إن شعوبنا ترفض الطاغوت، الخارجي والداخلي، وتلتف حول المخلصين الذين يجهرون بكلمة الحق عند الحاكم الجائر، وترفض أولئك الذين قد يحملون اسم الإسلام، وينسون أو يتناسون قول رسول الإسلام، صلى الله عليه وسلم: (سيكون أمراء فسقة جورة، فمن صدّقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولن يرد على الحوض)، لن يرد على حوض شفاعة محمد، صلى الله عليك يا محمد.
أيها الإخوة والأخوات
ألم يُفتتح لقاؤنا هذا قبل أيام بقول الله عز وجل: {محمد رسول الله والذين معه أشدّاء على الكفار رحماء بينهم}؟
فاعلموا أن تجاوب المسلمين مع ثورة إيران الإسلامية من وراء الحدود والقيود، إنما هو لتراحمها مع المسلمين وهم يواجهون حكاما، أشداء على المؤمنين، أذلاّء أذلاّء على أعتاب واشنطون وموسكو.
وأين.. أين في بلادنا اليوم الحكم القائم على ما أنزل الله؟
هل هو في بلد تصدر فيه الفتاوى بالصلح مع الصهيونيين الغاصبين ويقبل حاكمه بخدمة الإمبريالية الأمريكية؟
أم هو في بلد يرفع الإسلام شعارا كبيرا عريضا، خاليا من مضمونه، ويقيم مؤسسات كبيرة ضخمة لاحتواء العاملين للإسلام، وليس له سياسة إلا سياسة التسلط على خيرات البلاد في الداخل وخدمة السياسة الأمريكية في الداخل والخارج على حساب الإسلام والمسلمين؟
هل هو في بلد يريد حاكمه أن يصنع إسلاما جديدا فيه، مزيجا من الاشتراكية وهو يخدم الإمبريالية السوفييتية، ومن التغنّي بالعروبة والقومية العربية، وهو يطعن أبناء فلسطين في الظهور، ثم يضرب خبط عشواء في كل اتجاه، إلا اتجاه الصراط المستقيم، صراط الإسلام؟
أم أن الحكم بما أنزل الله قائم في بلد يقول دستوره إن دين رئيس الدولة الإسلام، وليس في الحكم كله إسلام إلا هذه المادة، ثم هو يضطهد المسلمين، ويمالئ أتباع الأمريكيين، ويحتضن الشيوعيين، ويتزلف لثورة المسلمين، ثم يجد من دون ذلك كله، من يدافع عنه باسم الإسلام، ومن يسير في ركابه برداء الإسلام.. يا أيها المسلمون.. هل هذا هو الإسلام الذي يمكن أن يلتقي في أي يوم من الأيام مع المادة الحادية عشرة من دستور إيران، ذكرنا بها منتظري يوم أمس، لإقامة سياسة جمهورية إيران الإسلامية على قاعدة ائتلاف واتحاد الشعوب الإسلامية؟
وشرّ البلية، أنهم جميعا يتخذون من قضيتنا الإسلامية، قضية فلسطين ذريعة وبضاعة رائجة، والشعوب.. الشعوب قادرة على التمييز بين الهتافات الإسلامية المنطلق، الإسلامية الهدف.. ثورة ثورة حتى النصر، صاحبتْنا إلى مقبرة الشهداء، غدوّاً ورواحا، تنطلق من أرض طهران إلى أرض الإسراء، ومن وراء هذه الهتافات صوت الإمام الخميني، صوت قائد الثورة يقول قبل ستة عشر عاما: “إن معظم مصائبنا من أمريكا ومن إسرائيل التي هي جزء لا يتجزأ من أمريكا”.. الشعوب تميز بين الموقف الهادف إلى التحرير الكامل واستعادة الأرض السليبة، من النهر إلى البحر، وبين مواقف حكومات، منها من يتحدث عن فلسطين وهو يبيع فلسطين للصهيونية، ومصرَ لليهود والأمريكيين معا، ومنها من يقول إنه يخاصم بائع فلسطين، وهو يحتضن.. بل يركع أمام أمريكا عاقدة الصفقة مع بائع فلسطين ومغتصب فلسطين، رغم أبنائها المشردين والمستعمَرين، وأصحابها المخلصين من أقصى الأرض إلى أقصاها، ولا يستحيي من توجّههم خمس مرات في اليوم والليلة إلى بيت الله الحرام.
ومنها حكومات أخرى، تجعل قضية فلسطين حجة للارتماء في أحضان طاغوت الشرق بدلا من طاغوت الغرب، فتتخلّى فيما تتخلّى عن كلمة حق ونصرة لأفغانستان الذبيحة على أيدي الشيوعيين.
هل هذا.. هل هذا هو الطريق الذي يلتقي مع طريق الزحف للجهاد، ولو سيرا على الأقدام، إلى المسجد الأقصى، كما دعاكم أيها المسلمون يوم أمس آية الله منتظري في مدينة قم؟
إن قضية فلسطين، كسائر قضايا الإسلام والمسلمين، لا يمكن أن تخدمها هذه الحكومات، وقد امتلأت معتقلاتها بدعاة الإسلام، وأقبية المخابرات فيها بأبناء الإسلام، وتشرفت أعواد المشانق في بعضها بشهداء الإسلام، على مسمع ومشهد منكم، وفيها من يستغيث ممن تعرفونهم من الأرامل والثواكل والأيتام، من النساء والشيوخ والولدان.
وإن هؤلاء الشهداء، كالشهداء في “جنة الزهراء”(٣).. وإن هؤلاء الأبرياء المستضعفين، كالأبرياء الذين نكّل بهم شاه إيران، يا علماء إيران، سواء بسواء، وهؤلاء، لا يتجاوبون، ولا يلتقون على طريق واحد، إلا مع العلماء المناضلين ضد الطاغوت في أرضهم، ليسقط الطاغوت، ضد الدول الكبرى من وراء الطاغوت، حتى تنهزم الدول الكبرى، أمام الأزهار المرفوعة بأيدي الشباب والفتيات، والصدور المتصدية للدبابات والرشاشات.
إن قلوب المستضعفين المتجاوبة معكم يا ثوار إيران يقظة واعية، ويمكن أن يخيب أملها، ويخبو تجاوبها، إن رأت أيدي الثوار الأحرار، تمتد إلى أيدي حكام، هم السبب في مقتل الشهداء، ونكبة الأبرياء، إلى أيدي حكام، قد يتمسحون بالإسلام والإسلام من طغيانهم براء، أو أيدي من يسير في ركابهم، أو يدافع عنهم سواء بسواء، فالشعب.. الشعب المتجاوب مع ثورة إيران، لأنها إسلامية، يرفض هؤلاء وهؤلاء، ويرفض أن يكون بينهم وبين دعاة الإسلام الحر النظيف تعاون ولقاء، تضيع فيه دماء الشهداء، ودموع الأرامل والثواكل واليتامى من المستضعفين الأبرياء.
ولئن كان المسلمون يتجاوبون مع هذا المنبر، منبر الثورة الإسلامية في إيران، فلأنه أقيم حتى يقال الحق فيه على الدوام، مصداقا لقول رب العزة والجلالة: {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين} وتنفيذا لبيعة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها أن يقولوا الحق لا يخافون لومة لائم، بل وتلاقيا مع قول الإمام الخميني من بعد، مع قول قائد هذه الثورة في مدينة قم التي رأيناها، أيام عقد الشاه معاهدة الاستسلام الذليلة مع أمريكا، ومنح الحصانة لكل أمريكي في إيران، فوقف العالم الثائر في العشرين من جمادى الآخرة، عام ألف وثلاثمائة وأربعة وثمانين هجرية، يصدع بما أمره الله، ويجهر بالحق، لا يخاف إلا الله، ويتحدى الباطل باسمه الصريح، ويقول بعد أن كشف بطلان المعاهدة وطغيان من عقدها: “أقسم بالله، بأن من يسكت هنا، ولا ينطق بقول الحق آثم، وإنه لمرتكب لإحدى الكبائر”.
وإنّنا لنقسم مع الإمام الخميني، نقسم بالله، أن من يقف في هذا المكان، أو في أي مكان آخر، ويرى في بلادنا الظلم والطغيان، وما يمارَس فيها من تزييف للإسلام، ثم يسكت، وهو يعلم، فإنه آثم.. آثم.. آثم، وإنه وهو يعين الظالمين مرتكبٌ لإحدى الكبائر، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: (من آتاه الله علما فكتمه، ألجمه الله يوم القيام بلجام من نار) وصدق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (من أعان ظالما بباطل، ليدحض به حقا، فقد برئ من ذمّة الله ورسوله) برئ من ذمّة الله جلّ وعلا، وبرئ من ذمّة رسوله محمد، صلى الله عليك يا محمد.
وليعلم الظالمون، وليعلم أعوان الظالمين الذين لا يعتبرون، وعلى طريق التبعية للحكام يمضون، أن طريق الإسلام الحر الأصيل هو طريق النصر، مهما استكبر المستكبرون، يناضل المخلصون عليه، لا يخشون التهديد، ولا يخشون المرهبات، وماذا نخشى في قول كلمة الحق؟ الله أحق أن نخشاه، وإن مكانا عزيزا كريما بين الشهداء، أحب إلينا ألف مرة مما يجمعون.
{ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون}
{ولينصرنّ الله من ينصره إنّه لقوي عزيز}
{وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون}
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
نبيل شبيب
هوامش
(١) – من كلمة الخميني في ٢٠ جمادى الآخرة ١٣٨٤هـ و٢٦ / ١٠ / ١٩٦٤م عقب الإعلان عن توقيع معاهدة منح الحصانة لكافة الرعايا الأمريكيين في إيران، والتي عرفت بـ”معاهدة الاستسلام”.
(٢) – كان حسن المدرس من كبار علماء طهران والمجاهدين فيها في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري، وتخلص الشاه الأول منه مع عدد من القادة والعلماء الآخرين سنة ١٩٥٨م.
(٣) – “جنة الزهراء” هو الاسم الذي أطلق على مقبرة كبيرة في جنوب طهران، ضمت عددا كبيرا من شهداء الثورة، وتضمنت الاحتفالات زيارتها.