ــــــــــ
لقد جعلنا من لغتنا العربية أو الحديث عنها مسألة مناسبات عابرة، وموضوعا من المواضيع كسواه، أو كأنها لغة أجنبية علينا أن نتعلمها، وليست لغتنا الأم التي إن فقدناها فقدنا ركيزة وجودنا! بل أصبحنا نساهم بأنفسنا في التمكين من إقصاء لغتنا عن الإسهام في صناعة واقعنا وهي محور أساسي لا غنى عنه في ذاته ولا يجوز أن نستغني عنه من محاور صناعة واقعنا؟
اللغة العربية إكسير وجودنا، ليس لأنها “العربية” فحسب، بل لأن لغة أي قوم تمثل إكسير وجودهم، إن هي ذهبت ذهبوا، وكأني بالشاعر القائل إنما الأمم الأخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا، كان يقرر أيضا أن الأمة تضيع إن ضاعت قيمها، والقيم تضيع إن ضاعت لغتها، فهي الرابط المعرفي والانتمائي الواصل ما بين أعضاء جسدنا التاريخي الواحد عبر آفاق الأزمان من أجيال غابرة وأجيال حاضرة معاصرة وأخرى قادمة في علم الغيب، والرابط الواصل أيضا بين أعضاء جسدنا الواحد في عالم معاصر، فهي التي توحد عناصر الأمة عبر آفاق الأمكنة من المعمورة، فوجودهم فيها وجود مشترك على أرض لغة ينتسبون إليها، وحيثما كانت بينهم لغة مشتركة للتفاهم والإبداع وللعلم والإنجاز، كان لوجودهم قيمة، وكلما غيّبوا مفعولها بينهم اضمحلت معه قيمتهم كأمة، وتفرّقوا فسلّم كل فريق منهم زمام أمره وثقافته وعلومه لأمة من الأمم مع تسليم ألسنة أطفاله للغتها، وجامعاتها، وآدابها، وعلومها، وحتى لمصادرها في صياغة التاريخ والأخلاق والقيم والأذواق.
أو ليس هذا ما يتجسد فيمن تأمركوا وهم خليجيون، أو تفرنسوا وهم مغاربة، أو ذابوا بتمزيق الهوية الواحدة إلى هويات محلية، شامية هنا، نبطية هناك، مصرية هنالك، فبدأ تمزيق هذه “النتف” التي سترت بعض عوراتهم المحلية حينا، إلى لبنانية ودمشقية وحلبية، أو نبطية حجازية وأخرى يمنية وثالثة كويتية وربما سبع لهجات أخرى في سبع إمارات، ومصرية دلتاوية وأخرى صعيدية وثالثة نوبية في السودان؟!
ثم يتساءل المتسائلون: ما أسباب انفراد القوى الدولية بنا، بزعيم بعد زعيم، أو دولة بعد دولة، أو ميدان بعد ميدان، حتى صارت شؤوننا جميعا، لا شأننا الواحد المشترك، بضائع مستباحة عند كل طامع؟
أو لسنا نحن الذين زهدنا ببعضنا وبتواصلنا فزهد عالمنا المعاصر بنا جميعا، ومضينا – أو تجمّدنا – منفردين فكل حزب بما لديهم فرحون، أو مجتمعين أحيانا، إنما على ترسيخ كل ما لا يجمعنا ولا يوحدنا؟
ليست اللغة حروفا وكلمات وقواعد وبلاغة، إنما هي المعاني التي تصوغها الحروف والكلمات.
وليست اللغة أداة لصب المداد في بيانات سياسية وغير سياسية تذاع، ولا لتشحيم آلات الترويج والتسويق لبضاعة من البضائع السياسية وغير السياسية في لحظة التجزئة العابرة من لحظات تاريخ الأمم، إنما هي دعامة من دعائم وعاء حضاري يمتد عبر العصور لكل أمة من الأمم.
أفلا نرى كيف أصبحت التجزئة اللغوية سكينا تمزق نسيج الفنون والعلوم، ومعصرة تذيب الأفكار والآداب، وطاحونة لمناهج تصورات متناقضة وإبداعات طائشة، وقد يظن من يظن أنه يشرق بذلك كله ويغرب، والواقع أنه لا يصل شرقا ولا غربا، ولكن تنوء به لغته تحت سياط اعوجاج فكره ولسانه، وإعلام قابع بين جدران مخاوف الأنظمة ومطامعها.
لهذا يترافق تشعّبُ السبل بألسنة المناهج والمدارس، مع تشعّب السياسات في الأحزاب والأقطار، ثم ينفرط العقد المصطنع مرة أخرى وتتشعب النزاعات داخل كل قطر من الأقطار وداخل كل حزب من الأحزاب.
وحّدوا ألسنتكم تتوحدوا
ها نحن – كالمعتاد – نغفل عما تعنيه مقولة كما تكونوا يولّ عليكم، فنفرّ من مواجهة مسؤولياتنا إلى صبّ جام غضب أقلامنا على من يحمل المسؤولية أكثر مما نحمل، وقد تركناه يتحكم في مصائرنا دون حق، إنما شأننا في ذلك شأن الإناء ينضح بما فيه، ولا نكاد ننضح إلا بمعاول تهدم بيتنا اللغوي المشترك.
منذا الذي يرغم أستاذا جامعيا عندما يتكلم بالعربية – وقد أصبحت بضاعة نادرة في جامعاتنا – ألا يتكلم بها فعلا، فيلجأ إلى العامية أو لغة أجنبية، ويأبى أن يتعلم فصاحة لغته، مثلما يتعلم مادته الدراسية ليعلمها لسواه، فلا يستوعب لغة قومه وتاريخه ولا يستوعب حجم مسؤوليته تجاه أبناء أمته وقد يكون فيهم، بعض أبنائه وبناته!
وأولئك المبدعون في أدب أو فن وفي علم أو تقنية وفي تأليف كتاب أو صياغة مقال، تراهم يسعون ويكدّون ليبرزوا عبر قدرتهم فيما يبدعون، ولكن – على افتراض أنهم مبدعون حقا – علام تنقطع حدود قدرتهم على الإبداع عندما تمسّ قرائحهم لغة أمتهم وهم لها يبدعون، وعما تتأثر به مسؤولون!
وإذا قيل عن بعض المذيعات في الفضائيات وعبر أثير الإذاعات إن اعوجاج ألسنتهن كان مقصودا وفق سياسة مرسومة من جانب بعض من يعبثون بثروات الأمة عبر الإعلام ليفسدوا الأمة في مختلف الميادين، فما الذي يمكن قوله عن بعض من تلتقي بهم المذيعات من مسؤولين وخبراء وأساتذة وكتاب وغيرهم من فئات المثقفين والموهوبين والنخبويين، وكل منهم يخلط خلطا ممجوجا بين عبارة ركيكة وبسمة رقيقة، كأنما يهمه الظهور في لقاء إعلامي أكثر من أن “يُعلم” ما يريد قوله عبر الوسيلة “الإعلامية”.
إن المسؤولية عن إكسير حياتنا مسؤوليتنا جميعا، قارئين وكتّابا، أساتذة وطلابا، جمهورا ومبدعين، محكومين وحكاما، فمن أدّى ما عليه حيثما استطاع، وما يستطيعه كثير أدّى الأمانة، وربما دفع سواه إلى المشاركة بالمزيد، أما من يشارك في تقاذف الاتهامات زاعما تطبيق مقولة “من كان بيته من زجاج فليس له أن يرمي الناس بالحجارة”، فلن يفيده عذره عندما تصيب الحجارة بيته الذي يؤويه!
مقاومة دون سلاح
إننا – إلا قليلا – نهرب من تحمّل المسؤولية وأدائها كما ينبغي، تجاه لغتنا وتجاه سواها من قضايانا، وكم ذا استنجد بعضنا بواقع سوانا ليقنع بعضنا الآخر، بأن هذا الذي نقول عن ضرورة الأخذ بلغتنا في كل ميدان على طريق النهوض، يعرقل نهوضنا وتقدمنا، فيجب أن نأخذ بلغة “الغالب” حضاريا!
يا قوم، ما سقطت لغة الألمان ولا لغة اليابان مع من سقط من ضحايا قنابل هيروشيما وناجازاكي ودرسدن وبرلين في الحرب العالمية الثانية المدمّرة.
ولا بلغ الأمر بين الحلفاء المتنافسين في بسط الهيمنة على العالم من فرنسيين وأمريكيين وروس وصينيين، أن وضعوا ألسنتهم في قالب واحد وفق تركيبة ملائمة لزعامة انفرادية أو دولة حليفة كبيرة!
إنما صارت هذه الحجج وأمثالها التي يمكن أن نستخرج الردود عليها من بطون السجلات التاريخية لنهوض الأمم وزوالها، وظهور الحضارات واضمحلالها، حججا لا تؤدي مفعولها في مواجهة من يحملون معاول الهدم لينالوا من لغتنا العربية وهي إكسير وجودنا، فالمسألة ليست مسألة إقناع، وهم لا يصنعون ذلك “اضطرارا” تحت وطأة ما يفرضه المسيطر عالميا، بل يفعلون ذلك “استخذاء” عسى يجدوا لأنفسهم زاوية من الزوايا بين أقدام من يعتبرون الخضوع لهيمنته عالميا، غاية تُرتجى وهدفا يهون معه مصير أمتهم بأسرها!
إن لغتنا العربية إكسير حياتنا، وهؤلاء بات استخذاؤهم التبعي إكسير وجودهم على هامش الهامش، وسبب تحوّل الحوار معهم إلى حوار طرشان، ولهذا أصبحت معاول هدم اللغة في أيديهم بعضا من أسلحة الطابور الخامس داخل صفوف من يسعى للتحرر من قيود الهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها وفي جميع ميادينها!
بالمقابل لا بد من الإقرار بأن في صفوف من يقاوم التغرب السياسي والاقتصادي والأمني، بلسانه وقلمه على الأقل، ومن ننطلق من إخلاصه وإن تعددت الاتجاهات والتصورات والمشارب والانتماءات.. كثيرا ممن ينكرون عمدا أو يجهلون فعلا خطورة التغرب اللغوي على ثقافة المقاومة، وثقافة النهوض، وثقافة الصمود، وثقافة بناء حاضر الأمة ومستقبلها، فلا يجعلون من ذلك محورا من محاور مناهجهم ودعواتهم ومشاريعهم وفعالياتهم، وهم يساهمون بذلك من حيث يشعرون أو لا يشعرون، في تجزئة شعوب يرفعون شعارات توحيدها، وتمزيق صفوف يزعمون العمل لجمعها، وضياع فرص حوار وتفاهم وتعايش وتلاقٍ على أرضية مشتركة، لا يمكن من دونها تحقيق الأهداف الجليلة الكبيرة، التي قد نتحدث عنها جميعا، ولن تجد إكسير حياتها ليفعل مفعوله على أرض الواقع، ما دمنا نتحدث عنها بألف لغة ولغة وألف لهجة ولهجة، فالحروف إذا اجتمعت على معانيها العقول وعبرت عن الأفكار جمعت على مفعولها الخطى، ومن دون ذلك سنبقى نهتف بعشرات الألسنة، نحن أمة واحدة، وقد نزيد عدد الألسنة ونرفع نبرة الهتافات، دون أن نصنع على أرض الواقع ما يقتضيه وجودنا فعلا ويفرضه مصيرنا المشترك، لو صدقنا ما نقول عن أنفسنا، من أننا أمة واحدة.
نبيل شبيب