خواطر
مع توسع نطاق النشر بلا حساب، أصبحنا لا نكاد نجد نصا منشورا يخلو من خلفية سياسية أو ما شابهها.
فلندع صخب السياسة والسياسيين بمناسبة ودون مناسبة، ولنتبعد عن تفاصيل الأحداث التي يحرقنا لهيبها أو تنال منا عن بعد؛ ودعونا من جدل لا نهائي ولا يؤثر على مسارات الأحداث؛ ولنحاول بدلا من ذلك إلقاء نظرة ترتفع بنا إلى آفاق المشهد بمجمله، في موقعه التاريخي الأوسع نطاقا من مفعول تقلباته لحظة بعد لحظة، دون أن تمسك به أيدينا ودون أن تلحق به أبصارنا.
دعونا نستوعب ما يجري بصورته الشاملة لنقيسه بمعايير التطورات التاريخية الكبرى، التي تقاس بأعمار الأجيال المتعاقبة، على النقيض من الأحداث الآنية، وهي عابرة وإن تطاولت لسنين وسنين.
أيها الكرام إذا رأينا المشهد إجمالا، كيف نصنفه بين خانة إرهاصات السقوط حضاريا وخانة إرهاصات ولادة حضارية جديدة؟
أكاد أسمع قائلا يقول: ماذا تريد من هذه الهلوسات؟ ادخل في الموضوع دون إطالة وإسهاب؟
حسنا، فلأتساءل معكم: كيف نتحرك في مواجهة ما نعايشه من تفسّخ حضاري وقيمي وأخلاقي على حساب إنسانية الإنسان؟
هل نكتفي باحتجاجات واعتراضات وجدل لا نهاية له، حول بداهة البدهيات؟ وهل يجدي ذلك دون أن نحدد موقعنا من المشهد الشامل، بآفاقه المكانية والزمانية، وهنا إما أن نصنف أنفسنا في خانة الضحايا والمستهدفين إلى أن ينتهي أمرنا في خانة إرهاصات السقوط، أو أن نتصرف قدر المستطاع من منطلق إرهاصات ولادة حضارية جديدة؛ ولنعلم: إن الموقع بين هذا وذاك هو الضياع بعينه.
وليتساءل من يريد: كيف أجمع بالحديث بين إرهاصات السقوط وإرهاصات الولادة حضاريا؟
وأتساءل بالأحرى: كيف لا تجتمع؟
منذ آدم عليه السلام لم يشهد تاريخ البشرية سقوطا حضاريا دون أن يقترن مباشرة بصعود حضاري جديد، أما تصور وجود برزخ زمني ومكاني فاصل بين هذا وذاك فهو تصور مضلل، لا سيما في عالمنا المعاصر المتشابك والسريع الجريان.
يوجد دوما من يرفع عقيرته معبرا عن انزعاجه مما يجري حوله، وهو يزدري به، ويرفضه، وقد يشتم من يصنعه ومن يقبل به، والمفروض بنا بدلا من ذلك أن نرفع عقيرتنا بأسلوب حضاري كما يقال، لصالح البديل حضاريا وبالدعوة لصنع البديل ولدراسة كيفية صناعة البديل، ولفتح الأبواب أمام حاضنة النهوض الحضاري، حاضنة الفكر والعلم والأدب والعمل، مع المواجهة حيث تفرض نفسها، ومع التجاهل المقصود حيث يفيد التجاهل.
الإرهاصات الحضارية البديلة قادمة بنا أو بسوانا، فلنكن مع أنفسنا أو مع سوانا، ولنعلم أن إرهاصات التغيير حضاريا لا تعطي ثمارها إلا إذا كانت في مصلحة جنس الإنسان وبمعايير إنسانية الإنسان، دون تشويه ولا تضليل.
وأستودعكم الله، خالق الإنسان والأكوان، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب