رأي
حارت التعابير أمام وصف الحرب الإسرائيلية ٢٠٢٣ ضد غزة (وضد الضفة أيضا… وهما جزءان صغيران من فلسطين التاريخية). وقد انتشر من بين التعابير الحائرة تعبير (الهمجية غير المسبوقة) لوصف التدمير بالصواريخ والقذائف والدبابات والمدرعات والمدفعية والمقاتلات والمسيّرات وغيرها، ولوصف التقتيل بمختلف الأدوات والوسائل، قصفا وقنصا وتجويعا وتعطيشا وحرمانا من الدواء وممن يداوي، وغدرا بعد التشريد وكذبة تأمينه، ثم لوصف مختلف أشكال انتهاك المحرمات دوليا وإنسانيا ودينيا وقانونا وعرفا، بدءا باستهداف المدنيين غير المسلحين من الأطفال والنساء والشباب والمسنين، ومن المرضى والأطباء والمسعفين والصحفيين، وغيرهم، ليلا ونهارا، انتهاء باستهداف المستشفيات وسيارات الإسعاف والمخابز وشبكات المياه والكهرباء والوقود وغيرها، مما يمثل مقومات أساسية للحياة.
ويوجد فريق من أهل بلادنا ما يزال يصدق فعلا أن العالم الحر المتمدن لا يسكت عن همجية دموية تبطش بالقوانين والمواثيق والقيم والأوطان والإنسان. وهذا ما يفسر أنه فوجئ بما وصلت إليه تلك الهمجية الدموية كما فوجئ أكثر بدعمها وتمريرها بل والمشاركة المباشرة وغير المباشرة فيها، لفترة طويلة، من جانب من يعتبرون مسؤولين يوصفون بأنهم (كبار) في دول توصف بأنها دول معتبرة، وديمقراطية حرة، وحداثية متحضرة، ومدنية مثقفة.
يبدو أن المناهج الرسمية وغير الرسمية في بلادنا تحتاج بهذا الصدد إلى ثورة إصلاحية شاملة، تنطوي على الإصلاح في ميادين نشر الفكر وممارسة الإعلام وكسب العلم، مع دورات تأهيلية مركزة، وليكن ذلك ابتداء بما يوثقه التاريخ عن ممارسات الهمجية قديما وحديثا.
ولتكن الثورة الإصلاحية المقترحة مثلا للتعريف أولا بما كانت عليه همجية أولئك الذين صنعوا (العالم الجديد) عندما اعتبروه من (الاستكشافات) الجغرافية فادّعوا أنه (أرض بلا شعب) ويذكرنا هذا بانتشار هذه العبارة في مواكبة الهجرات اليهودية الأولى إلى فلسطين، ليعيش الغزاة -وهنا نعود للكلام عن أمريكا- ليعيش الغزاة القادمون من أنحاء الأرض فوق مقابر من دفنوهم فيها) فقد أبادوا عشرات الملايين من السكان الأصليين، أي من أطلقوا عليهم تسمية جديدة (الهنود الحمر) ليمحوا من ذاكرة الأمم أسماء قبائلهم الأصلية.
ولتكن الثورة الإصلاحية للتعريف مثلا آخر بما كانت عليه همجية أوائل من أسسوا منظمات الإجرام المسلحة وأعطوها اسم (المافيا) الشائع منذ ذلك الحين، أي منذ مطلع القرن الميلادي العشرين، وقد انتقل إرثها وإرث أفاعيلها الهمجية، حتى ظهرت منظمات المرتزقة لعمليات القتل في الحروب مقابل أجر مالي، كما ظهرت وانتشرت عمليات القتل العشوائي في المدارس والشوارع مع مزيد من الترويج لبيع السلاح لمن يشاء.
ولتكن الثورة الإصلاحية أيضا للتعريف بما كانت عليه همجية من كانوا من الجيوش الفرنسية -كما يقول المؤرخ باسكال بلاشا- كانوا يقطعون رؤوس من يقاومون الاحتلال ويأخذونها إلى باريس (سيدة الثقافات الغربية) كدليل على انتصارهم، ومنها ما كان يوضع بين حوالي ١٨ ألف جمجمة موجودة في متحف (الإنسان) الذي أقيم في الأصل لأغراض البحث العلمي من جانب معهد لعلم الآثار، ومع الزمن اكتُشفت نسبة حوالي ٥٠٠ جمجمة تقريبا لأشخاص من البشر، ومن ذلك جمجمة الطالب الأزهري سليمان الحلبي الذي قتل كليبر قائد جيش الغزاة الفرنسيين في مصر، ومنها جماجم ٣٦ قائدا من قادة المقاومة الجزائرية للاستعمار الفرنسي.
هذه أمثلة تتميز أنها من بلدين يعتبران مهد ولادة بيانات حديثة عن حقوق الإنسان، ولا غرابة في ذلك فقد ولدت تلك البيانات في رحم مصانع للعنف في أحداث همجية (غير مسبوقة آنذاك) فغلبت الهمجية على مجرى الحرب الأهلية في الولايات المتحدة الأمريكية وعلى مجرى أحداث الثورة الفرنسية ضد الملكية، فكان توارث العنف أظهر للعيان من توارث احترام حقوق الإنسان احتراما نزيها، دون كسره بالازدواجية والعنصرية وتقديس العنف عبر هيمنة شرعة الغاب.
ويوجد مزيد من الأمثلة يضيق المجال بالتفصيل حولها، فيكفي ذكر إشارات عابرة عنها.
١- (حرب الأفيون) التي أشعلتها بريطانيا ضد أهل الصين أو أهل سواحل الصين آنذاك، لإرغامهم بقوة السلاح على زراعة الأفيون لنشر المخدرات على مستوى شعوب استعمرتها.
٢- (قتل المشردين) من الشركس من السكان الأصليين لشبه جزيرة القرم، إذ أرادت روسيا نشر سكان من الروس مكانهم فشردتهم نحو سيبيريا وقتلت أكثر من نصفهم في الطريق.
٣- (الإبادة الجماعية في الصحراء تجويعا وتعطيشا) وقد ارتكبها جيش ألمانيا القيصرية التي يقال خداعا، إنها لم تكن دولة استعمارية، والواقع أنه كان لها مستعمرات في أكثر من منطقة، ومن ذلك في جنوب غرب أفريقية (ناميبيا حاليا) وعندما تمردت قبائل هيريرو وناما هناك على الغزاة الألمان، أرسل إليهم القيصر جيشا كبيرا كان يسوقهم إلى الصحراء ولا يقتلهم، بل يمنعهم من الخروج من الصحراء مجددا حتى الموت جوعا وعطشا ومرضا.
بعد هذا الموروث من الهمجية الغربية، يفاجأ بعضنا بمشاهد منحدر الهمجية في الحرب الإسرائيلية ضد أهل فلسطين بعد طوفان الأقصى! وهل هي إلا قسط من الإرث الهمجي الغربي الكبير، إنما اقترن بالتبجح العلني كما ورد في أكثر من تصريح رسمي إسرائيلي.
وأستودعكم الله العزيز الجبار ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب