رأي
أخيرا اتخذت تركيا موقفا محددا من الأحداث الجارية، وجاء ذلك على لسان الرئيس التركي رجب طيب إردوجان، في السادس والعشرين من تشرين أول / أكتوبر ٢٠٢٣م، بعد انطلاق عملية طوفان الأقصى بتسعة عشر يوما، وبعد انطلاق الحرب الإسرائيلية الغربية ضد قطاع غزة أرضا وسماء وبحرا، وحصارا، وكذلك بعد مظاهرة الزيارات الرسمية الغربية وسلسلة التصريحات الفاضحة عن تبنّي العدوان الهمجي الدموي دون حدود، وبعد التدخل الأمريكي المباشر بحاملات الطائرات والبوارج الحربية وفرقة دلتا للمهام الخاصة، وبعد استنفار الساسة والإعلاميين من أقصى الغرب إلى أقصاه، مع استثناء قلة من المنصفين، من مسؤولين وناشطين، وجميع ذلك في خضم اختلاط قعقعة السلاح بأنين الضحايا، وضجيج الحرب بمشاهد استخذاء المعتادين على الاستخذاء.
* * *
دون الخوض في التفاصيل بقي الرافضون للسياسة التركية يرفضون، والمؤيدون يؤيدون، وبقيت السياسات الرسمية حريصة على البقاء في حدود الأقوال دون أفعال، ودون الانزلاق بعيدا عن ممارسة الانتظار حتى تضع الحرب أوزارها، وإن أحرقت ما يمكن أن تحرقه من نبضات القلب الفلسطيني في غزة والضفة، وهما قطعتان من الأرض يتشبث بهما أهل فلسطين ويراد أن تلتهمهما الآن حرب عدوانية جارية، كما سبق التهام النقب والجليل والساحل وغرب القدس وشرقها وما تحت الأقصى وما حوله في حروب عدوانية سابقة، وكذلك تحت رايات مفاوضات سلام، وبقيت النتائج في الحالتين اغتصابا وقضما للأرض وانتهاكا لحقوق الشعب الأصيل.
ليس هذا من باب سرد تفاصيل لا نهاية لها، بل هو عناوين كبرى، والمآسي المتتابعة، الفردية والجماعية، تحت تلك العناوين هي التفاصيل، وأشدها على النفوس وعلى أرض الواقع هو المعادلة السارية المفعول منذ أكثر من سبعة عقود: هنا تراجع رسمي عربي متواصل على منحدر بعد آخر، وهناك: زيادة همجية العدوان ومضاعفة احتضان الغرب له مباشرة، بشكل متواصل، درجة بعد أخرى.
* * *
في الموقف التركي المعلن بعد انتظار مؤلم، اقترنت التبرئة الواضحة للمقاومة الفلسطينية بإدانة شديدة للمعتدين والقوى الدولية من ورائهم، واقترن التحذير من انفجار حربي إقليمي بدعوة لمؤتمر سلام محلي إقليمي دولي.
يمكن القول إن هذا موقف كلامي أيضا، وإنه دون موقف تركيا الذي مارسته من قبل في عهد حزب العدالة والتنمية بزعامة إردوجان؛ لهذا تغلب خيبة الأمل تجاه تركيا على خيبة الأمل تجاه سواها.
وسبق أن حاولت تركيا انتهاج سياسات ذات مصداقية قيمية وأخلاقية، ومصداقية عملية واقعية، ولم تجد من يشاركها المسيرة، فعدّلت سياساتها إقليميا من جديد، ولا تُستثنى من ذلك سياستها في التعامل مع قضية فلسطين، وما كان متوقعا سوى ذلك ما بقيت مسارات من يمارسون التطبيع على حالها، ومسارات المنشغلين عن العدو الخارجي بقمع شعوبهم على حالها، كما بقيت على حالها مسارات التفرقة الرافضة للتعاون حتى في حالات السلم لتوظيف الثروات المحلية والمعطيات الجغرافية ليكون للمنطقة دور فاعل على الصعيد الدولي.
تركيا تقول بموقفها الرسمي، إن الأبواب مفتوحة أمام حرب إقليمية ضروس قد يعرف أولها ولا يعرف منتهاها، أو أمام محاولة إقرار سلام على مستوى حد أدنى رسمته قمم رسمية عربية بعيدا عن تطلعات الشعوب، وحمل اسم مبادرة عربية أو شعار حل الدولتين أو عنوان الأرض مقابل السلام، وجميع ذلك أفضى إلى اغتصاب مزيد من الأرض ورفض مزيد من مبادرات السلام.
تركيا الرسمية تتحرك بموقفها في قضية فلسطين في مستنقع من الألغام، وبالحد الأدنى الذي يمكن أن يتطور إذا وجدت شركاء من الدول العربية والإسلامية الأخرى، وهو موقف يمكن أن يقال عنه واقعيا وعاطفيا، رسميا وشعبيا:
إن السير على هذا الطريق ما بين خيارين، الحرب الضارية أو السلام بثمن باهظ، لا يوصل إلى نتيجة، فالطرف الآخر، الصهيوني الغربي، لا يريد ثمنا ما، بل يريد السيطرة المطلقة، سلما أو حربا، فلا تفيد جولة سلام جديدة معه، وهو يعلم أنه لا يمكن لدولة عربية أو إسلامية ولو بحجم تركيا أن تخوض الحرب ضده بمفردها.
طوفان الأقصى كشف الغطاء عن نهاية طريق استسلامي بلا مقاومة، وبغض النظر عن النتائج في المستقبل المنظور، ستبقى قضية فلسطين تنتظر التلاقي بين العرب والمسلمين على مسار مشترك، يشمل فيما يشمل التعامل مع قضية فلسطين، وقد اغتصبت الأرض بالقوة، ولا يبدو أن هناك إمكانية لإنهاء هذا الاغتصاب إلا بالوحدة والنهوض والقوة، وهذا ما يسري على السياسات التركية وغير التركية تحت عنوان قضية فلسطين.
وأستودعكم الله وأستودعه أمانة العرب والمسلمين في هذا العصر ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب