(حرر هذا المقال ونشر بعد سنة من وصول أوباما إلى الرئاسة وقبل سنة من انطلاق الثورات الشعبية العربية.. وما زال مضمونه ساري المفعول، ولا يلغي شيئا من ذلك أن يوجد آخرون ممن يمارسون التعذيب الهمجي والإجرام العلني كما أصبحت سورية شاهدة على ذلك أكثر من سواها)
مرّ العام الموعود.. وجوانتانامو موجود.. فهل أراد السيد أوباما إغلاقه وعجز أم نوى وتراجع أم كذب وانكشف أم ماذا؟..
لعل الأفضل من الجواب أن ندع الرجل وشأنه.. ولكن المشكلة أنه لا يدع بلادنا وشعوبنا وقضايانا وشأنها، مع فارق بسيط، أن كثيرا ممن يُفترض أن يفكروا أولا ببلادنا وشعوبنا وقضايانا فانشغلوا به وجعلوه هو البديل عن ذلك، والمحور الأول في أحاديثهم وكتاباتهم ومخاوفهم وآمالهم.. هؤلاء ينتظرون ما يصنع.. أما هو فيصنع.
أما أن يتحركوا هم ويصنعوا هم شيئا حقيقيا مفيدا لبلادهم وشعوبهم وقضاياهم، سواء وجد هو أم لم يوجد، وصنع شيئا أم لم يصنع، فقد بات أمرا مرفوضا، وسلوكا معيبا، وليس أمرا مهملا فحسب، أو ذاك على الأقل ما يمكن فهمه عندما يتحرك من لا يتحرك، بسياسته وممارساته، أو بكتاباته وأقواله، أو بجدرانه وغلمانه، أو بصمته ونطقه، إلا لإجهاض حركة من يرفض ويقاوم.. لأنه هو -أي السيد أوباما- لا يحب من يرفض ويقاوم!
مر العام الموعود.. وجوانتانامو موجود.. وحصل أوباما على جائزة نوبل للسلام من أجل وعوده وليس من أجل إنجازاته، كما قيل رسميا، والمفروض أن يقال الآن رسميا أيضا: بسبب وعود سلام وأمان وأخلاق لا تتحقق، وإنجازات تهديد ووعيد وحرب وتقتيل وتشريد تحققت.
ولكن ماذا يعني جوانتانامو على صفحات تاريخ الدولة التي يرأسها أوباما؟
وكيف تطلبون منه التنكر لبلده وتاريخ بلده؟
وعلام تركيز -البعض- على جوانتانامو الرمز وحده؟
نعم.. آلام سجناء جوانتانامو فوق التصور.. وهم مئات، ترى هل نتصور عذابات من يتلقون القذائف الأمريكية على بيوتهم وفي شوارع قراهم على أرض باكستان، من الطائرات دون طيار وعلى أرض أفغانستان من الطائرات بطيار ودون طيار، وهم مئات الألوف؟!
أم نغفل عمّا يعنيه تحويل قطاع غزة إلى سجن ضيّق يحاط بالجدران الفولاذية والمدمرات الإسرائيلية وتحوم في سمائه الطائرات الحربية الصهيوأمريكية صنعا وتنفيذا.. وأهله يعدّون مليونا ونصف المليون “إنسان” وما يعنيه تقطيع أوصال الضفة الغربية والقدس الشرقية إلى ألف قطعة وقطعة والعمل على ابتلاعها بمستعمرات جديدة بعد ابتلاع أخواتها قبل عقود معدودة بمستعمرات قديمة وملاحقة من تشبث بأرضه من أصحابها بالجرافات والمحاكمات والأغلال؟!
جوانتانامو رمز.. فإن كان الوعد بتنظيف لطخة رمزية واحدة غير قابل للتحقيق، فلا تصوّروا الوهم حقيقة مقبلة، ولا تصوّروا نهاية الرمز لو انتهى يوما ما عملا بطوليا، وإن بقيت ألف لطخة سوداء ولطخة، أكبر منه وأصغر، موجودة من قبله، ولا يزال يُصنع المزيد منها كل يوم.
مر العام الموعود.. وجوانتانامو موجود..
إنما ليست سقطة أوباما في حكاية جوانتانامو المأساوية إلا واحدة من سقطاته المضحكة المبكية..
ليست مبكية بسبب ما يصنع هو، بل تكاد تكون مبكية على حال من يتوقع منه أن يصنع شيئا آخر..
وليست مضحكة لأنها أمر هزلي، بل هي تثير الضحك المرير على أولئك الذين انتظروا وينتظرون من أوباما، ما لا يملك أو لا يريد.. سيان، فالمشكلة في أنهم انتظروا وينتظرون وليس في أنه هكذا أو هكذا.. كما يكتب عنه الكتّاب، كلّ وفق الصورة التي صنعها عنه لنفسه!
لم يغلق الرئيس الأمريكي الإنسان معتقل جوانتانامو..
ولم ينسحب الرئيس الأمريكي المسالم من العراق..
ولم يوقف الرئيس الأمريكي المقاتل القتل في أفغانستان..
ولم يمنع الرئيس الأمريكي المخادع تهويد ما بقي من فلسطين..
ولم يقطع الرئيس الأمريكي الخطيب المفوّه نشر الفوضى الهدامة بل وصل بها إلى كل مكان..
ولم يلغِ الرئيس الأمريكي العادل شيئا من القوانين الاستثنائية ضد المسلمين في بلده..
ولم ينفتح الرئيس الأمريكي المُحاوِر -فيما عدا انفتاح ثغره بالبسمات- على العالم الإسلامي..
معذرة.. أصبح التعداد مملا وليس مريرا فقط..
ما لكم ولأوباما، سواء كان ضعيفا عاجزا كما يقول الملأ من قومه تحريضا له، أم كان ساذجا عاجزا كما يقول الملأ من المنبهرين بإشعاعات لسانه لسذاجتهم وعجزهم هم؟!
بعض من كان ينظر إلى أوباما وهو يفتتح أول أيام رئاسته بالتوقيع على أمرٍ بإغلاق جوانتانامو خلال عام، مضى في الانسياق وراء مهرجانه الدعائي المتقن إلى أكثر ما كان يحلم به أوباما نفسه، فتصوره وصوره للناس قاضيا يحاكم من عذّب الأسرى.. وما هم بأسرى، فلم يَتّهم ولم يحاكم.. وتصوّره وصوّره للناس يمسح العار عن السمعة الأمريكية، كما لو أنها كانت قبل جوانتانامو نقية بيضاء لا تلطخها هيروشيما ولا فييتنام ولا باناما ولا ليبيا ولا فلسطين ولا العراق ولا..
لا عار يشينها.. حتى وإن ذكّرنا زلزال هاييتي هذه الأيام بالاحتلال الأمريكي لهاييتي في مطلع القرن الميلادي العشرين جنبا إلى جنب آنذاك مع الإعلان الرئاسي الأمريكي الذي يتغنى به المتأمركون، بصدد الدفاع عن حق تقرير مصير الشعوب..
لا عار يشينها.. حتى وإن ذكّرتنا الأزمة الكروية المصرية الجزائرية هذه الأيام بأن الجزائر كانت أول بلد عربي إسلامي استهدفته الأساطيل الأمريكية قبل قرن ونيف من الزمن..
لا عار يشينها.. حتى وإن ذكّرنا الملف النووي الإيراني بالقنبلة النووية التي ألقيت على ناجازاكي بعد أن ظهر المفعول الإجرامي المدمّر من القنبلة التي ألقيت على هيروشيما..
لا عار يشينها.. حتى وإن ذكّرنا تشغيل المحكمة الجنائية الدولية مجدّدا ضد السودان ورئيسه بمحاكم نورنبيرج التي حاكمت مجرمي الحرب من النازيين الألمان ولم يكن من اختصاصها محاكمة سواهم كما يشهد فيما يشهد مسحُ مدينة درسدن بالأرض مسحا، وقتل 130 ألفا من سكانها قتلا، في نهاية الحرب العالمية الثانية..
لا عار يشينها.. حتى وإن ذكّرنا..
معذرة مرة أخرى.. فالقائمة طويلة أيضا ومجرد تعداد العناوين مرير ومملّ!
أوباما -يا قوم- مشغول بنفسه عنكم وعن جوانتانامو ومن فيه، والمشغول لا يُشغل..
أم تريدونه أن يدخل سجل التاريخ الأمريكي على أنه “رئيس ضعيف” -بين من سبقه من رؤساء أقوياء أشداء لا تضاهيهم الذئاب في ظلمات الغاب، فلا يثير مشكلة مع الصين بتسليح تايوان، ولا يضاعف القتل على أرض باكستان ليرهب “الإرهابيين”، ولا يزرع بذور حرب أهلية في اليمن ليغطّي سوءات مخابراته وعباقرتها القادرين على تنفيذ الاغتيالات وتدبير الانقلابات وصنع الاضطرابات في أنحاء العالم!
أم تريدونه أن يستغني عن نفط الخليج، وعن مقبرة الامبراطوريات على حدود امبراطوريات المستقبل الصينية والهندية.. وأن ينسحب من العراق قبل استكمال نشر الفوضى الهدامة فيه وحوله، أم أن يلين قلبه لأهل الصومال وأطراف السودان ويرسل معونات أو يمتنع عن حبك المؤامرات.. أم أن يوقف استغلال إفريقية لتنقذ نفسها بثرواتها من المجاعات ولا ينقذ الشبكة الرأسمالية من الانهيار!
كيف يصبح إذن زعيما مهيب الطلعة واللسان، لامبراطورية أخطبوطية الأذرع تتبرقع بكرامة الإنسان؟
من يحسب أن “كرامة الإنسان” هذه هي محور مسألة جوانتانامو بالمنظور الأمريكي فلينتظر ما شاء له الانتظار أن يغلق أوبامــاتنامو أبوابه ويهدم قضبانه ويحاكم سجانيه الذين كانوا يجلسون حيث يجلس هو في بيتهم الأبيض!
ومن يحسب أن إغلاق جوانتانامو يمسح العار عن الجبهة الناصعة للولايات المتحدة الأمريكية فليمسح أولا سجل التاريخ الأمريكي على امتداد قرنين وزيادة!
جوانتانامو -يا قوم- ملف سياسي من الملفات السياسية الأهم والأقل أهمية عند صانع القرار الأمريكي ورأس هرم نظام الحكم الأمريكي، ولا علاقة للحسابات السياسية الأمريكية بالإنسان وكرامة الإنسان وحقوق الإنسان وحريات الإنسان، فذاك كله يصلح للخطب، وأوباما يتقن فن الخطابة، إنما يتقن فن السياسة أكثر.. وعندما يرى مصلحة سياسية حقيقية في إغلاق جوانتانامو فسيفعل بين ليلة وضحاها، وسيتجاوز العقبات والصعوبات بين لحظة وأخرى.. ثم يلقي خطبة عصماء مضمونا وإخراجا، أكثر من خطبته “التاريخية” العصماء مضمونا وإخراجا، في جامعة القاهرة، مدينة الألف مئذنة، ومدينة السلطان بيبرس، وقاهرة الامبراطور نابليون بونابرت!
وإن سقط أوباما مع امبراطوريته.. ومع جوانتانامو، فلا تتساءلوا من سيسقط معه، فالأمور مكشوفة، وكاشفة لقدر كبير من العار والشنار يجعل حكاية العار جوانتامو تتيه بين سواها في صفحات تاريخ عصر الانحطاط الحالكة السواد.
نبيل شبيب