مفاهيم
مسألة أهل الحل والعقد مثال على انتشار مقولات عديدة بعيدة عن مضمون مصطلح إسلامي النشأة، دون مراجعة كافية لحقيقة المصطلح وقابلية سريان مفعوله في عصرنا الحاضر، مما يسبب تصورات غير صحيحة، ونتعامل معها دون الوقوف عندها منهجيا كما ينبغي.
وهذا مثال أيضا على ما يتطلب مراجعة ذاتية لمن ينطلق من منهج إسلامي ومن يرفضه ويستهدفه على السواء.
كما أنها مثال على ما يمكن أن يفتح أبواب تفاهم أعمق في السعي لتحديد معالم الطريق بين واقع بلادنا مع تقلبات مسارات التغيير، وبين لحظة تاريخية لاستقرار وضع كريم يقبل به الجميع أو الكثرة الكاثرة من شعوبنا، مع رؤية مسبقة لما يتوقع من محطات ملغومة وأخرى آمنة بين الواقع والمستقبل.
الاجتهاد وإبداع وسيلة لتطبيقه
لم ترد عبارة أهل الحل والعقد في القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولم ترد هذه العبارة على لسان الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلّم.
إنما اجتهد علماء الأصول ثم علماء الفقه في اختيارها عنوانا وليس نهجا، لوصف حالة ما رصدوه من واقع نشأ تدريجيا في العصر النبوي وما بعده.
قليل منهم من ربط ذلك بآية قرآنية، وعلى وجه التحديد بتعبير “أولي الأمر منكم” في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ} -النساء: ٥٩- أي اجتهد هؤلاء في هذا الربط والاستنباط، كأولئك أيضا الذين ربطوا العبارة بما ورد عن كيفية ممارسة الشورى في العهد النبوي.
ويعتمد ذلك على جواز تعدد الاجتهادات في موضوع ثبت عدم وجود دليل قطعي الدلالة بشأنه.
أما من يقول في عصرنا الحاضر بالأخذ بهذا المصطلح في تأسيس نظام دولة، ويعتبره شرطا لوصفها بالإسلامية، فهو يختار واقعيا ما يقتنع به شخصيا من اجتهادات، كاجتهاد الإمام النووي بقوله حول أهل الحل والعقد إنهم (العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين يتيسر اجتماعهم) -الإمام النووي في كتابه منهاج الطالبين- أو اجتهاد الجويني القائل عنهم هم (الأفاضل المستقلون الذين حنّكتهم التجارب وهذبتهم المذاهب وعرفوا الصفات المرعية فيمن يناط به أمر الرعية) -الإمام الجويني في كتابه الغياثي، غياث الأمم في التياث الظلم- أو أي اجتهاد آخر.
ويبقى السؤال في هذه الحالة عن وسيلة مناسبة لتحديد من تنطبق عليهم المواصفات المذكورة أو سواها مما ورد في أقوال علماء مجتهدين سابقين.
من يقول بمسألة أهل الحل والعقد حديثا، يحمل واجب نشر ما يعنيه وكيفية تطبيقه، بين الناس عبر آليات حديثة لم تتوافر بالأمس، لا سيما في إجابة السؤال: كيف نحدد الآن من هم أهل الحل والعقد.
نميز إذن بين اجتهاد يمكن اختياره من خلال دراسات جديدة محكمة، وبين وسيلة لتطبيقه ترتبط بتبدل المكان والزمان والظروف، فيصح استخدامها وإن لم تكن معروفة في العهد النبوي، كما صنع الفاروق مثلا في اختيار وسيلة الدواوين -ولنقل: استيرادها- لتيسير أمر إحصائي بعد ازدياد عدد المسلمين وازدياد رقعة انتشارهم الجغرافية، وكما يمكن أن يصنع سواه من بعده، وقد تضاعفت هذه الزيادة وتشعبت الغايات من ذلك الأمر الإحصائي، وتعدّدت التقنيات الأحدث في تنفيذه.
بين الشورى وجهاز أهل الحل والعقد
من تحدّث عن أهل الحل والعقد قديما، ربط ذلك غالبا بتنظيم العلاقة بين رأس جهاز السلطة وبالتالي حدود صلاحياته وفق التعابير الحديثة، وبين الرعية، أو الشعب أو المواطنين وفق التعابير الحديثة، عبر أصل ثابت في ممارسة السلطة هو البيعة والشورى، أي تحدّث عن جهاز للآلية التطبيقية وفق معطيات عصره.
ويحتاج من يطبق هذا المبدأ بالضرورة إلى جهاز للآلية التطبيقية وفق معطيات العصر، ونجد حول ذلك:
(١) النصوص القرآنية والنبوية أطلقت أوصافا عديدة على الفرد عندما يتولّى سلطة تتضمن تسيير أمور الناس بتوجيهها وتيسيرها لما فيه الأصلح لهم (وهو المعنى اللغوي عربيا لكلمة: سياسة) ومن تلك الأوصاف: الأمير والسلطان والعزيز والوالي، والجدير بالذكر أنه ليس بينها لفظة الحاكم المشتقة من المصدر: حكم، فاستخدامات هذا المصدر ومشتقاته في النصوص الشرعية قرآنا وحديثا مركزة على: الفصل بين طرفين أو أكثر كما يفعل القاضي.
(٢) النصوص الشرعية، القرآنية والنبوية، لم تستخدم تعبيرا يحدّد كيفية ملزمة لممارسة المبدأ الثابت: الشورى، مثل مجلس شورى أو مجلس أهل الحل والعقد.
(٣) من أخذ بمسألة أهل الحل والعقد ربط بينها وبين الشورى، ونعدّد من ذلك أمثلة على التطبيقات العملية:
١- مشورة فرد والأخذ برأيه، وكان امرأة في مواجهة عقدة استيعاب الصحابة لصلح الحديبية، أو كان رجلا في حالة اختيار المنزل الأفضل لأهل بدر في غزوة بدر.
٢- مشورة الرجل المتخصص / الخبير كما في حالة حفر الخندق في العهد النبوي أو مشورة المرأة المتخصصة الخبيرة كما في حالة تحديد فترة غياب الجندي عن زوجه في عهد الفاروق.
٣- مشورة عامة شاملة، كما كان في حالة الخروج من المدينة في غزوة أحد.
المطلوب الآن
نعود إلى واقعنا الراهن ومسارات التغيير التاريخية فيه، ونجد أمام تعدد الاجتهادات حول أهل الحل والعقد فلا يكفي أن تقول جهة ما إن الدولة الإسلامية المنشودة تقوم على مرتكزات معينة، من بينها أهل الحل والعقد، بل ينبغي:
(١) بيان ما تقصده بالتعبير اصطلاحيا.
(٢) بيان إيجابياته التي تستدعي الأخذ به حاليا من وجهة نظر من يعتبره اجتهادا شرعيا.
(٣) طرح الوسيلة أو الوسائل المناسبة لتطبيقه وفق معطيات وظروف ومتطلبات معاصرة.
(٤) كيفية توظيف التقنيات والآليات الحديثة المتوافرة والمناسبة.
(٥) تثبيت الضمانات التي تعزز الربط بين هذه الجزئية من عناصر قيام دولة إسلامية كما يراها من يطرحها شعارا وهدفا، وبين المقاصد والكليات الشرعية الكبرى التي تجمع بين من ينطلق من الإسلام دينا ومنهجا أو من يقبل به منهجا للسلطة وإن لم يلتزم به عقيدة، أي غير المسلمين في دولة غالبيتها من المسلمين.
(٦) كما ينبغي من بعد ذلك كله سلوك الطريق المناسبة للبيان والتوضيح ليعلم الخاصة والعامة ماذا يُطرح عليهم، وماذا يراد بهم وبمستقبلهم ومستقبل أولادهم وأحفادهم، وليعلم سواهم ما ينتظرهم على صعيد “العلاقات” البشرية وما يترتب عليها، لا سيما في عالم بات – كما يقال – قرية صغيرة؛ وبالتالي كي يجد ما يُطرح التأييد على بينة دون إكراه أو الرفض على بينة دون إكراه.
(٧) أخيرا: تأمين إمكانات مناسبة وكافية لتنفيذ ما يتقرر نظريا ويجد التجاوب العام والتأييد عموما.
ختاما:
أهل الحل والعقد صيغة سياسية اجتهادية بمنزلة مصطلح إسلامي وركن من أركان السياسة الإسلامية.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب