أسماء – رحيل الشاعرة فدوى طوقان ١٢/ ١٢/ ٢٠٠٣م

 

اسم "طوقان" مرتبط باسم فلسطين قلبا وقالبا، فقد رافقت النفثات الشعرية التي حملت هذا الاسم مسيرة القضية المصيرية المحورية الكبرى في المنطقة، منذ ولادة المؤامرة الدولية على فلسطين والمنطقة، وإلى أن بلغت مرحلة من أخطر مراحل الجهود الدولية لتصفيتها، على حساب الحق التاريخي، والشعب المشرّد والمستعمَر، وعلى حساب مستقبل المنطقة.

ولئن كانت حياة إبراهيم طوقان إلى ما قبل النكبة الأولى عام ١٩٤٨م حافلة بالعطاء المندمج اندماجا كاملا بالقضية، والتحذير المبكّر -أو في الوقت المناسب- ممّا يراد أن يُصنع بها، فقد اتخذت حياة شقيقته "فدوى طوقان" شكلا آخر، يمكن اعتباره نموذجيا أيضا ولكن من زوايا أخرى، بغض النظر عن التلاقي والافتراق مع هذا الموقف أو ذاك، وبغضّ النظر أيضا عن اختلاف المرحلة الأولى من حياتها الخاصة والشعرية قبل نكبة عام ١٩٦٧م وبعدها.

 

رحلة صعبة ورحلة أصعب

فدوى طوقان تحدّثت عن نفسها وعن هاتين المرحلتين من حياتها في كتابيها: "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" و"رحلة جبلية.. رحلة أصعب". وكانت في كتابها الأوّل تبرّر إغراقها في الشعر المعروف بالرومانسي، الذي اعتمدت فيه القصيدة العامودية، بل وتنكر أن تقبل أن يتحرّك الشاعر مع ما تفرضه عليه "عصا السياسة"، وهو تبرير من العسير القبول به، فأحداث قضية فلسطين التي بقيت بعيدا عنها بشعرها، بدءا بحقبة الهجرات والعمليات الإرهابية الإسرائيلية في ظلّ الاستعمار البريطاني، مرورا بنكبة عام ١٩٤٨م، وانتهاء بأحداث التشريد والاغتصاب والتهويد والتمييز العنصري حتى عام ١٩٦٧م، جميع ذلك لم يكن مجرّد "عصا سياسية" أو حدثا سياسيا، إنّما كان حافلا بمختلف ألوان المآسي الفردية والعائلية والجماعية، ومختلف أشكال التطوّرات والأحداث الكبرى.. وجميع ذلك إن لم يكن "مادة" يتفاعل معها الشعراء وسواهم، حتى وإن بقيت قصائدهم تركّز على العلاقات بين الجنسين، وعلى الصور العاطفية، ممّا لم يبق شيء منه دون أن يتأثّر بالمأساة الكبرى.. فإنّ الحصيلة هي أن يتحوّل الحديث عن قصص الحبّ والغرام إلى قضبان قفص ذهبي يحشر الشاعر فيه نفسه بعيدا عن قرّائه.

 

وقد لجأت فدوى طوقان إلى تبرير بقائها مع شعرها بعيدا عن الحدث السياسي المحيط بها، بأنّها نشأت في أسرة تميّز ما بين الذكور والإناث، فلا تترك للإناث سبيلا إلى طلب العلم، أو المشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وهو وضع مرفوض بطبيعة الحال، فحرمان المرأة نتيجة للتقاليد المتناقضة مع الإسلام ومع متطلبات الحياة، هو إحدى المشكلات الكبرى التي تركت بصماتها السلبية في واقع الأمة وتعاملها مع مختلف قضاياها الكبيرة والصغيرة، ولكن توظيف هذا الوضع الأسروي، لتبرير خلوّ شعر فدوى طوقان قبل عام ١٩٦٧م، من لمسات عاطفية حانية على صعيد أوضاع بني وطنها، وإن خلت من "موقف سياسي" يصعب فهمه أو القبول به.

يبدو أنّ الخطأ يكمن في "محاولة التبرير" أصلا.. والتي نجمت عن خروج فدوى طوقان من مرحلة إلى مرحلة، فقد كان من الأيسر الاعتراف بتقصير سابق والعزم على تحرّك جديد بمنطلقات جديدة، لا سيّما وأنّ حال أسرتها وحالها لم يكن يختلف عن أحوال نسبة عالية من الشعوب العربية بما فيها الشعب الفلسطيني في تلك الحقبة الحافلة بالنكبات العسكرية والسياسية والاجتماعية، بعيدا عن إرادة الشعوب، ومواقف النخبة من مثقفيها ومفكريها.. إلا من أصبح جزءا من آليات صناعة النكبات على المستوى السياسي والعسكري.

 

المأساة.. والشعر الوطني

لقد كانت فدوى طوقان في المرحلة الأولى من "رحلتها الصعبة" صورة من صور لا حصر لها انطلقت في حقبة زمنية معيّنة من القرن الميلادي العشرين من حقب التاريخ العربي، وبدا فيها أنّ "كسر القيود العتيقة" من تقاليد مرفوضة أو قيم مطلوبة على السواء، بات هدفا بحدّ ذاته، يعبّر عن نفسه في تكوين حزب وجماعة، أو رفع راية وشعار، أو نشر مقال وكتاب، أو إبداع شعر ورواية.

وينقل الباحث الشاعر رمضان عمر في كتابه "سيرة فدوى طوقان وأثرها في دراسة أشعارها" اعتراف فدوى طوقان بأنها "لم تعرف الإحساس بالواقع الاجتماعي والالتصاق الوجداني الملازم بالقضية الجماعية إلا بعد حرب حزيران" كما ورد في الصفحة ١٥٢ من كتابها "رحلة جبلية.. رحلة أصعب"

والرحلة الأصعب التي بدأتها بعد ذلك كانت بانتقالها من الناحية الأدبية إلى شعر التفعيلة، ومن ناحية المضامين فعلى النقيض من الدواوين الثلاثة التي نُشرت لها قبل عام ١٩٦٧م، بدأت قصائدها تتناول أوضاع الشعب الفلسطيني، ولعلّ أشهر ما يُستشهد به من تلك القصائد، قصيدة حملت عنوان:

"لن أبكي"، أهدتها إلى "شعراء المقاومة"، فكان فيها:

على أبواب يافا يا أحبائي

وفي فوضى حطام الدور

بين الردم والشوك

وقفت وقلت للعينين: يا عينين

قفا نبك

أحبائي

مسحت عن الجفون ضبابة الدمع الرمادية

لألقاكم وفي عيني نور الحب والإيمان

بكم، بالأرض، بالإنسان   

فواخجلي لو أني جئت ألقاكم

وجفني راعش مبلول

وقلبي بائس مخذول

أحبائي حصان الشعب جاوز كبوة الأمس

وهب الشهم منتفضاً وراء النهر

أصيخوا، ها حصان الشعب

يصهل واثق النهمة

ويفلت من حصار النحس والعتمة

ويعدو نحو مرفئه على الشمس

وتلك مواكب الفرسان ملتمة

تبارك وتفديه.

 

هذه القصيدة.. وسواها من قصائد مشابهة، بقيت في حدود وصف للأوضاع المأساوية، وإشادة بالمقاومة، إنّما دون اتخاذ مواقف سياسية كما غلب على ما يسمى "الشعر الحماسي" الفلسطيني منذ النكبة الأولى إلى اليوم.

الدراسات العديدة التي نشرت عن فدوى طوقان لا تورد ما يستحق الذكر عن مواقفها السياسية، وحضورها لعدد من المؤتمرات لم يتضمّن مثل هذه المواقف، فغالبا ما كان حضورها بصفتها شاعرة تعبّر عن الشعب الفلسطيني وجدانيا، وليس سياسيا، وإذا كان لها اتجاه سياسي محدّد وفق تلك الدراسات فهو الاتجاه اليساري، وهو ما يشير إليه وساطتها الشفوية مع ياسر عرفات في وقت مبكر نسبيا للقبول بعملية السلام، كما ذكر رمضان عمر في دراسته المشار إليها آنفا، ويضيف أنّ لقاءها مع موشي دايان، كان لقاء محرجا لها اعتذرت لاحقا عن "عجزها" فيه إذ لم يتجاوز حدود المطالبة بتخفيف العناء عن أهل البلدة التي كانت تعيش فيها.

 

الشاعرة الراحلة.. وتكريمها

على أنّ إنتاج فدوى طوقان بعد عام ١٩٦٧م حافل بعدد كبير من الصور البطولية ومن المديح لأعمال المقاومة، ومن التعبير عن الروح الوطنية، واختلط بعضها بمواقف تعبّر عن الاستعداد للسلام، وأخرى -كالواردة في كتاباتها غير الشعرية- عن تفهّم اليهود وأوضاعهم، وصداقتها مع كثير منهم، إلاّ أنّها تبقى إجمالا من القصائد التي جعلت اسم فدوى طوقان مقترنا بالتأكيد أنّها الشاعرة الأولى في الحياة المعاصرة لشعب فلسطين، وهذا ما وصلت إليه من خلال رحلتها "الأصعب" والتي تقول عنها:

"ظللت طيلة عمري الأدبية، أحس بانكماش ونفور من الإجابة على الأسئلة الموجهة إلي عن حياتي، والعوامل التي وجهت هذه الحياة  وأثرت بها، وكنت أعرف السبب – سبب ذلك الانكماش والنفور من الإجابة  على الأسئلة – ذلك أنني لم أكن يوماً براضية عن حياتي أو سعيدة بها، فشجرة حياتي لم تثمر إلا القليل، وظلت روحي تتوق إلى إنجازات أفضل وآفاق أرحب، إذن لماذا هذا؟ أكتب الكتاب الذي أكشف فيه بعض زوايا هذه الحياة التي لم أرض عنها أبدا، بتواضع غير كاذب أقول: إن هذه الحياة على قلة إثمارها لم تخل من عنف الكفاح".. كما ورد في الصفحة ٩ من كتابها "رحلة جبلية.. رحلة أصعب".

 

وكان من الدواوين المنشورة للشاعرة فدوى طوقان: "وحدي مع الأيام" و"وجدتها" و"أمام الباب المغلق" و"الليل والفرسان".. و"فدوى طوقان الأعمال الكاملة".

ومن جوائز التكريم التي مُنحت لها، جائزة رابطة الكتاب الأردنيين عام ١٩٨٣م، وجائزة سلطان العويس عام ١٩٨٧م، وجائزتي ساليرنو الإيطالية للشعر ومؤسسة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عام ١٩٩٤م، وجائزة كافاتيس الدولية للشعر عام ١٩٦٦م. ومن الدراسات التي نشرت حولها، "فدوى طوقان.. الشاعرة والمعاناة" لهاني أبو غضيب، و"فدوى طوقان.. والنكبة" لشاكر النابلسي، و"فدوى طوقان.. أغراض شعرها وخصائصه الفنية" لإبراهيم العلم، و"تجربة فدوى طوقان" ليوسف يوسف، و"السيرة الذاتية لفدوى طوقان" لنايف العجلوني. ومن أواخر ما صدر عنها "من إبراهيم طوقان إلى شقيقته فدوى" حول تأثيره الكبير عليها ودوره في مجرى حياتها، بالإضافة إلى "رسائل إبراهيم طوقان إلى شقيقته فدوى" الصادر في رام الله.

نبيل شبيب