ــــــــــ
ولد الشيخ عام ١٩٣٨ في قرية تسيل الواقعة في منطقة حوران جنوبي سوريا، والتي تتميز بتاريخ مشرق يزخر بأمجاد المسلمين مما كان له بالغ الأثر في نفسه منذ نعومة أظفاره. فبالقرب من القرية يقع نهر “العلان” وهو من روافد نهر “اليرموك” حيث الموقعة التاريخية التي كان النصر فيها حليفاً للمسلمين، وبالقرب منها “تل الجابية” التي اتخذها الغساسنة عاصمة لهم، وبها التقى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع جيش المسلمين عقب انتصارهم في معركة اليرموك. وبالقرب منها كذلك “تل الجموع” الذي جمع فيه صلاح الدين الأيوبي قواته وأعاد تنظيمهم لشن حملته الشهيرة لتحرير بيت المقدس من الصليبيين، وتجاورها بلدة “نوى” بلدة الإمام النووي رحمه الله، وما إلى ذلك من الأماكن والمواطن المحيطة التي تعبق بتاريخها المجيد.
ويعود نسب الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين إلى علي برهان الدين أبي النصر الحريري (ت 620هـ) من نسل الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وينتشر آل الحريري في مناطق مختلفة من حوران ودمشق وحلب وحماة وإدلب ولبنان وغيرها من مدن الشام، وتشتهر بالكرم وحسن الضيافة، حيث شكلت “المضافة” جزءاً أساسياً من بيوتهم يستقبلون فيها من يعرفون ومن لا يعرفون، فلا يردون أحداً ولا يسألونه عن أصله أو سبب زيارته.
تلقى الشيخ محمد سرور تعليمه الابتدائي في قرية “الشيخ مسكين” المجاورة لتسيل، ثم انتقل إلى مدينة “درعا” لدراسة المرحلة المتوسطة والثانوية، ودرس على أيدي أساتذة لهم سمعة كبيرة في تاريخ سوريا الحديث مثل أحمد راتب النفاخ، والأستاذ عبد الرحمن النحلاوي، والأستاذ أحمد الجنادي، لكن أبرزهم كان الأستاذ محمد لطفي الصباغ، حيث لازمه في الفصل وخارجه متنقلاً معه في نشاطه الدعوي هو وزملاؤه في المسجد، وبين القرى خطيباً للجمعة فيها. ثم انتقل إلى جامعة دمشق عام 1958، لإكمال المرحلة الثانوية في الكلية العلمية الوطنية، وليلتحق بعدها بكلية الحقوق في جامعة دمشق، وانخرط في العمل الدعوي حيث لازم عدداً من كبار الأساتذة مثل الشيخ علي الطنطاوي، ومحمد أديب صالح، ومحمد المبارك، والأستاذ عصام العطار، ودرس على الأستاذ مصطفى السباعي مادة “الأحوال الشخصية” وتأثر به.
وبعد إتمام دراسته الجامعية بجامعة دمشق انتقل إلى المملكة العربية السعودية عام ١٩٦٥ مدرساً في المعاهد العلمية التابعة لجامعة محمد بن سعود الإسلامية، وكانت أولى محطات التدريس في منطقة “حائل”، حيث مكث فيها عاماً واحدا، ثم انتقل إلى منطقة “القصيم” مدرساً في المعهد العلمي لمدة خمسة أعوام، أولها كان في “البكيرية” ثم في “بريدة” بقية المدة، وبعدها في “الإحساء” عامين، ووجد مناخاً آخر يختلف عن صخب الحياة السياسية والاجتماعية بدمشق، حيث اتسمت المملكة ببيئة دينية تزخر بالعلماء والدعاة والمعاهد الشرعية، وبتعظيم للشعائر كإغلاق المحلات التجارية في أوقات الصلاة، فاستفاد في هذه البيئة الجديدة من الجانب العلمي، فلازم الشيخ عبد الرحمن الدوسري، وقابل عدداً من كبار العلماء مثل عبدالرزاق عفيفي والشيخ محمد بن عثيمين، وأعجب كثيراً بمكانة مفتي الديار آنذاك الشيخ محمد بن ابراهيم.
ونظراً لما تمتع به من كرم فطري وشخصية محببة، فقد التف حوله مجموعة من الشباب، واستمر طوال تلك الفترة على ما جُبل عليه من حب للعمل الدعوي، فلاقت دعوته رواجاً لدى الشباب وفي الأوساط التعليمية، مما اضطره للانتقال إلى الكويت عام 1973، حيث تكونت له في سن الخامسة والثلاثين حصيلة دعوية غنية، وثقافة شرعية أصيلة، ووعي سياسي، واهتمام بأمور المسلمين انعكس على كتاباته في مجلة المجتمع التابعة لجمعية الإصلاح الاجتماعي لمدة ثلاث سنوات.
وفي عام 1976 قام بتأسيس مكتبة “دار الأرقم” والتي نشر من خلالها مصنفات وبحوثاً شرعية لعدد من العلماء والكتاب الأجلاء، وعكف في هذه الفترة على دراسة التشيع، حيث زار بعض الحسينيات في الكويت وناظر أئمتها، وقابل شخصيات من حزب الدعوة العراقي، ووصل بعد ذلك إلى قناعة راسخة حول حقيقة الثورة الخمينية، وأبعادها وأهدافها، وضرورة تحديد الموقف الشرعي المطلوب تجاهها، الأمر الذي دفعه لتأليف كتابه الشهير “وجاء دور المجوس”، خلال الفترة 1976-1979، والذي جاء نتيجة استقراء الوضع في سوريا ولبنان والعراق وإيران، متمثلاً في قيادة الفرس للشيعة لا العرب.
وعلى إثر المجازر التي تزامنت مع الثورة الإيرانية عام 1979؛ شكلت هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز؛ لجنة يرأسها الشيخ صالح بن غصون، وأشار عليهم الشيخ عبد الله بن قعود بالاطلاع على كتاب “وجاء دور المجوس”، فنال رضى الهيئة، واشترى الشيخ ابن باز ثلاثة آلاف نسخة من الكتاب لتوزيعه، وصدرت منه بعد ذلك عشرات الطبعات، ولا يزال مصدراً أساسياً لدراسي الظاهرة الصفوية الجديدة في النظام السياسي الشيعي المعاصر.
وفي عام 1984 انتقل الشيخ بأسرته إلى بريطانيا كمستثمر في مجال النشر والتوزيع، ومن مدينة برمنغهام واصلت “دار الأرقم” أعمالها وتوسع نشاطها، كما قام بتأسيس “مركز الدراسات الإسلامية” لمواصلة النشاط العلمي والبحثي، حيث انطلق في عمله الدعوي، فكانت له دروس ومحاضرات في شتى المدن، خاطب من خلالها أبناء الجالية العربية، وصدرت عنه عدة مؤلفات وبحوث ودراسات، إلا أن أبرز ما صدر عن المركز “مجلة السنة” التي صدر العدد الأول منها عام 1989، وعُرف من خلالها بمواقفه الشامخة، حيث استنكر الغزو العراقي الآثم للكويت عام 1990، وبين آثاره الشنيعة على البلاد والعباد، وأنكر في الوقت نفسه الاستعانة بالقوات الأمريكية في بلاد الحرمين. كما تصدى لظاهرة الغلو والتكفير التي بدأت بالانتشار عقب أحداث الجزائر، عقب إلغاء نتائج الانتخابات التي فازت بها الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1992، وظهور من يفتي بمشروعية قتل النساء والذرية في الجزائر، فما كان من الشيخ محمد سرور، وقد سبق له رصد هذه الظاهرة منذ فترة وصنف فيها عدة كتب منها ما يتعلق ببدايات الفكر وتحديداً جماعة شكري مصطفى في كتاب “الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو”، والآخر منها حول ما بات يعرف بـ”القطبية” في كتاب “التوقف والتبين”، ما كان منه إلا أن انبرى لهذا الفكر المتشدد عبر المجلة، فبين جذوره التاريخية.
والمتابع لكتابات الشيخ محمد سرور تجاه أهل الغلو يلاحظ بما لا يدع مجالاً للشك موقفه الصارم تجاه هذا الفكر بداية من التجربة الأفغانية وما كتبه حولها من مقالات عبر مجلة “السنة” ورسائل مستقلة نقدية، في الوقت الذي كانت أمريكا وبعض الدول العربية تمدهم بالمال والسلاح وشتى أنواع الدعم، مروراً بأعمال الإرهاب والتفجيرات التي شهدتها مصر عندما ألف رسالة “مصر والإرهاب”، وصولاً إلى بيان الموقف الشرعي من أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما جرته على الأمة الإسلامية من ويلات، وانتهاءً بتفنيده لدولتهم المزعومة على موقعه الرسمي في مقدمته لرسالة “الدولة الإسلامية بين الوهم والحقيقة”، مما جعل أتباع الدولة يبادرون لإصدار فتوى تبيح دمه.
تميزت دعوة الشيخ محمد سرور بالاتزان والاعتدال، والتمسك بوسطية أهل السنة والجماعة، حتى لا تنتهي الأمور بالشباب إلى ما انتهى إليه هؤلاء الشرذمة، وعندما لمس من بعض أدعياء السلفية الغلو والتنطع صنف سلسلة مقالات بعنوان: “السلفية بين الولاة والغلاة”، واجه فيها مشكلات الاستحواذ الرسمي لبعض الدول على الدعوة من جهة، ودعاة التكفير واستحلال الدماء التي وقع فيها خوارج العصر بشتى مسمياتهم ابتداءً من “جماعة التكفير والهجرة” من جهة ثانية. وفي هذه الأثناء بذل الشيخ جهوداً كبيرة في الدعوة إلى توحيد جهود العاملين في ميدان الدعوة، نظرياً في مقالات “الوحدة الإسلامية” التي صدرت كرسالة مستقلة فيما بعد، وعملياً في عقد الملتقيات والندوات الحوارية التي ضمت أبرز الدعاة حينها.
ومع دخوله في العقد السابع اشتد حنينه إلى بلاد المسلمين بعد طول غربة، فانتقل مع أسرته إلى الأردن عام 2004، حيث عكف على مراجعة كتبه، وتصنيف مذكراته، وأعاد نشر الكتب التي صدرت بأسماء مستعارة سابقاً باسمه الصريح وعلى رأسها: “وجاء دور المجوس” و”رؤية إسلامية للصراع العربي الإسرائيلي”. وانتقل بعد ذلك إلى دولة قطر، حيث استمر في جهوده العلمية والدعوية، وعقد مجلسه العامر باللقاءات الدورية والندوات.
وفي هذا الطور الأخير من حياته الحافلة بالعلم والدعوة؛ أمضى سني حياته الأخيرة متفاعلاً مع قضايا الأمة الإسلامية يعيش همومها ويتابع مستجداتها، منفتحاً على جميع التيارات المعتدلة، وبقي على هذا الحال يقاوم السن والسقم، ويتكبد السفر، ويتعنى الكتابة، ويواصل استقبال زواره بهمة لا تعرف الكلل ولا الملل، حتى أقعده المرض، ووافته المنية في الدوحة مساء الجمعة 11 نوفمبر 2016، تاركاً خلفه سيرة عطرة، ومثالاً للدعوة والاحتساب، ونموذجاً فريداً للتجديد، ونبراساً للوعي والإدراك، قلّ أن يأتي الزمان بمثله. كما خلف تراثاً علمياً ثميناً من المقالات والدروس والمحاضرات، والمقابلات المسجلة، والمؤلفات التي تربو على العشرين مصنفاً في شتى مجالات الفكر والدعوة والسياسة الشرعية.
رحم الله الشيخ محمد سرور زين العابدين برحمته الواسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.