تحليل
في ٤ / ٩ / ٢٠١١م نشر موقع (دنيا الوطن) رسالة مفتوحة بقلم الكاتبة الفلسطينية سوسن زهدي شاهين كانت قد نشرتها في مدونتها بعنوان (رسالة إلى سيادة الرئيس عباس من مواطنة) تعدد فيه المكاسب المحدودة والمخاطر الكبيرة التي تترتب على ما ركزت سلطة عباس الأنظار عليه، منذ تبين الانهيار التام لمسيرة المفاوضات الأوسلوية العبثية، وهو السعي للحصول على صفة دولة دون أن تكون لها مواصفات دولة فعلا.
أهم ما جاء في المقالة، ويمثل جوهر المشكلة قول الكاتبة:
(البديل هو عمل استفتاء شعبي والالتزام بقرار الشعب حول حقه بتقرير مصيره، تستدعي ممارسة الحق في تقرير المصير مشاركة جميع أبناء الشعب الفلسطيني.. بمن فيهم السكان القاطنون في الأرض الفلسطينية المحتلة، واللاجئون الفلسطينيون، والفلسطينيون في الشتات والمواطنون الفلسطينيون في فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨).
ثم تخاطب سوسن شاهين محمود عباس بقولها:
(كنتم ولا زلتم أصحاب القرار في كل ما يتعلق بنا حتى في لقمة عيشنا ومقدراتنا، وصَمَتْنا، لكن الآن ترسم معالم دولتنا ونحن أصحاب الحق في ترسيم حدودنا، وفي عودتنا إلى ديارنا التي هُجّرنا منها قسرا، نحن أصحاب الحق في أن تكون القدس عاصمتنا، وأن يتم الإفراج عن أسرانا، نحن أصحاب الحق ألّا تكون دولتنا على الوضع الحالي بالمستوطنات والجدار بل بقرارنا معا نستطيع رسم معالم مستقبلنا).
جوهر قضية فلسطين أن من يتصرّفون بها سياسيا لا يمثلون صاحب الحق: الشعب، وعلى افتراض أنهم يمثلون قطاعا منه، فهم لا يمثلونه بمجموعه، وهم يتصرفون رغم علمهم أن حق تقرير المصير حق ثابت، لا ينسخ ولا يختزل عن طريق حكومة ولا سلطة ولا منظمة ولا قرار دولي، بل يتحقق أولا وأخيرا من خلال التعبير عن إرادة الشعب بأسره، ثم ضمان آلية شروط الاستفتاء وآلياته، ثم الالتزام بنتائجه، ومن ذلك أن يكون استفتاء شاملا لجميع فئات الشعب وأطيافه واتجاهاته، مع تغييب الضغوط التي تؤثر على الصوت الفردي، مثل القتل والتشريد والحصار والتجويع والعدوان والاعتقال، وغياب عوامل التزييف، مثل عقد اتفاقات بليل على غرار اتفاقية أوسلو، وتنصيب سلطة يُعترف دوليا بها بما يتناقض مع انتخابات فاجأت نتائجها تلك السلطة ومؤيديها.
جميع ما جرى دون هذه الخطوة يخالف حق تقرير المصير ويعتبر باطلا ابتداءً ولاغيا لاحقا، ككل ما بني على باطل بمفهوم القانون الدولي العام، ومن ذلك مخالفة مبدأ حق تقرير المصير، ومن ذلك انتهاك مبدأ عدم مشروعية اغتصاب الأراضي بالقوة، ومن ذلك عدم مشروعية قرار يصدر عن جهاز مجلس الأمن الدولي ويخالف الميثاق الذي أوجد مجلس الأمن الدولي مع تغييب جهاز قضائي دولي مستقل ينطلق من الميثاق ليحكم على قرارات باطلة عندما تصدر عن أجهزة ما، كجهاز مجلس الأمن الدولي.
إن الطرف الذي يملك الحق ولا يملك لحقبة من الزمن القوة في عالم يفرض بالقوة غير المشروعة أوضاعا غير مشروعة، يتمسك -هذا الطرف الأضعف- بحقه، ويعمل في الوقت نفسه من أجل أن تتبدل موازين القوة عالميا، ليفرض ذلك الحق ويلغي الباطل الذي قام ساعة ضعفه مع جميع ما ترتب عليه.
على النقيض من ذلك في الوقت الحاضر يلجأ طرف لا يمثل شعب فلسطين، أي لا يمثل الطرف الوحيد، صاحب الحق في تقرير مصيره ومصير أرضه ومستقبله، إلى مغامرات سياسية من نماذجها ما يصنع تحت عنوان دولة تعترف بها الأمم المتحدة، ومن معالم هذه اللعبة:
١- التوقيت بالمنظور التاريخي: المنطقة العربية على أبواب تغيير شامل، من شأنه على المدى البعيد أن يوجد موازين أخرى في صناعة القرار السياسي، وفق إرادة الشعوب لا الاستبداد المتسلط على الشعوب وإرادتها.
٢- الحصيلة بالمنظور الجغرافي: تراجع آخر على منحدر التنازلات غير المشروعة، وذلك من خلال تثبيت قرار يقول إن الدولة الفلسطينية تقوم على أرض من فلسطين التاريخية أقل مساحة حتى مما سبق أن جاء في قرار سابق هو قرار التقسيم.
٣- العواقب بالمنظور السياسي: تصوير القرار وكأنه يصدر بمشاركة طرف يمثل شعب فلسطين، وهو تزييف للواقع، يمكن الاعتماد عليه بمنطق القوة التي تحكم العلاقات الدولية، في زعم وجود مشروعية لهذا القرار، وبالتالي زعم وجود مشروعية لوجود كيان سياسي آخر، على القسم الآخر من الأرض التاريخية، أو هذا -بتعبير آخر- توسيع النطاق الجغرافي للزيف السياسي الذي سبقت ممارسته عبر قرار دولي كان حاضنة للنكبة الأولى، بمشاركة رسمية عربية رافضة، بل إن ما يجري الآن عبر السعي لقرار دولي أشد تزييفا وخطورة، إذ يصدر مع مشاركة رسمية عربية بالموافقة، ومشاركة مصطنعة لتمثيل شعب فلسطين زورا.
٤- المخاطر الإضافية بمنظور الواقع التطبيقي: هذه الخطوة تضيف ميدانا آخر من ميادين الحصار العديدة لقضية فلسطين المصيرية، والتي تمارسها قوى دولية وإقليمية، وتشاركها في ذلك أطراف فلسطينية تمضي بعكس تيار التاريخ، ومن أهم ما يضيفه هذا الميدان، أن الصورة الجديدة ستعرض الوجود الفلسطيني داخل الأرض المحتلة عام ١٩٤٨م إلى مزيد من الضغوط، وقد بدأت بالفعل قبل استصدار القرار المذكور، وستتضاعف من بعده، استنادا إليه.
لا ينبغي أن يشغل هذا التطور عن متابعة الطريق الفلسطيني والعربي والإسلامي الأصيل، والمشروع دون سواه بموازين القانون الدولي العام، والقائم على أسس تاريخية وطيدة، ولئن بدا ذلك الآن طريقا صعبا وسط الحصار الإقليمي والدولي، فهو الطريق الذي سيفرض نفسه في نهاية المطاف، ليس بسبب رسوخ مشروعيته فقط، ولكن في الوقت نفسه بسبب اتجاه ريح التطورات التاريخية التي بدأت بإخراج قضية فلسطين من منحدر العمل لتصفيتها، إلى استرجاع موقعها الأصيل، وتعزيز العمل لإيجاد الأسباب الموضوعية لتلاقي عنصري الحق والقوة في صناعة التغيير وصناعة القرار وصناعة الحدث التاريخي.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب