أحداث تونس وحتمية التغيير

نشر يوم ٢٨ / ١٢ / ٢٠١٠م في موقع إسلام أون لاين

تحليل

نتأمل في أحداث تونس في نهاية عام ٢٠١٠م، بعد أن كان القنوط منتشرا، فانتشر اليقين بحتمية التغيير وباستحالة صمود السلطات بين يدي شعوب ثائرة وإن طال النزع الأخير للاستبداد والفساد.

ربّما أضعف القدرةَ على إدراك حجم الحدث غلبةُ الاعتياد الروتيني على متابعة أحداث بلادنا العربية والإسلامية، وكيف نسمع أخبار التقتيل اليومي بلا حساب في كل مكان، فنتابعها ما بين وجبات الإفطار والغداء والعشاء يوميا، ونشهد أنّه لا يطرف جفن أو تهتز شعرة في رأس مسؤول من المسؤولين عن بلادنا وشعوبنا في بضع وخمسين دولة؟

كما نتابع تظاهر الألوف في مواجهة عشرات الألوف من رجال الشرطة وهراواتهم وأسلحتهم وخراطيم مياههم وغازات تسييل الدموع في أعين مقهورة، وقد اعتدنا على الاحتفاء أو على سرادقات العزاء بعناوين ومناسبات لم يعرف تاريخ شعوبٍ أخرى شبيها بها، كالأرقام القياسية عن عدد من أصبحوا عمداء الاسرى في السجون والمعتقلات الإسرائيلية، أو عدد الوافدين على الزنازن والخارجين أفرادا وأرتالا متتابعة في معتقلات تابعة للسلطات الوطنية في أكثر من بلد عربي وإسلامي؟

كفاية فقرا.. كفاية بطالة

لو كان الذين يتابعون أخبار تونس من كوكب آخر فربّما غلب على ظنهم أنهم أمام عرض مأساوي متميّز في مهرجان سينمائي دولي، أعطاه المخرج اسم محمد البوعزيزي وأعطى بلدته اسم سيدي بوزيد، وما كان ذلك مشهدا سينمائيا ولا جولة في ساحة معركة حربية، كما أنّه لم يكن حادثة مؤسفة، أو حالة استثنائية، ولا تجربة تدريبية لاستعراض عضلات الأجهزة القمعية، كما أنه لا ينبغي أن يكون موضوعا للجدل، ما إذا كان ما يجري منذ ذلك الحين، مجرّد اضطرابات اجتماعية أم له خلفية سياسية، وكأن لقمة العيش ومكان العمل والتهميش والفساد

ليست من أمور السياسة ومسؤولية السياسيين، أو أنه لا ينبغي التحرك من أجلها سياسيا وبدوافع سياسية!

محمد البوعزيزي (٢٦ عاما) كان معيلا لعائلة تتكون من ثمانية أفراد، أحدهم معاق، وما أفاده وأسرته أن يحصل على شهادة جامعية في بلد تبلغ نسبة خريجي المدارس والجامعات ٩٣ في المائة من العاطلين عن العمل فيه، جنبا إلى جنب مع تفاخر حكومته بما حققت من إنجازات اقتصادية تبيح لها حكم الشعب بعصا الأمن القمعية، واستبداد الزعامة الملهمة الفريدة من نوعها؛ فلجأ محمد البوعزيزي إلى بيع الفاكهة والخضار على عربة متحركة، وانتهى بإشعال النار في جسده أمام مبنى البلدية وهو يصرخ “كفاية فقرا.. كفاية بطالة”.. ومات في المستشفى بعد أيام!

مشهد من واقع حيّ مأساوي رهيب لا يكاد يوازيه شيء مما عودتنا عليه سياساتٌ ثقافية وفنية تعرض علينا صباح مساء ما تتفتق عنه عبقرية الروائيين والكتاب لإنتاج أفلام سينمائية، إن ابتعدت قليلا عن حكايات الإثارة الجنسية الإباحية، فهي تشتغل -وتشغلنا- بخيالات مستقبلية، وبطولات رامبو أسطورية، وشهوات دراكولا لامتصاص الدماء؛ وكأنّه لا يوجد في المجتمعات البشرية حولنا ما يكفي لإبداع المبدعين من قصص الضحايا الذين يتعرضون لمآسٍ تفوق شطحات الخيال، وضربات قمع رسميّ في الشوارع والمعتقلات مما لا يخطر مثيلُه على مبتكري شخصية “رامبو”، فضلا عن أطفالٍ يموتون جوعا، ويموت أهلوهم ألما، وشباب ينتحرون يأسا، وتنتحر معهم الطاقات التي كان يُفترض توظيفها في البناء والعمل والتنمية وليس في مواجهة بطولات أجهزة القمع ودوائر رصد البطالة وورشات تجميل وجوه ظالمة كالحة ومسرحياتِ معارضة حزبية لا تتقن دورها ووسائل إعلام متفوّقة بفنون التجهيل والتضليل والتعتيم!

فوجئت جهات عديدة بأحداث تونس التي أعقبت انتحار محمد البوعزيزي، ولكن نسينا أو تناسينا الحدث الأول وما بعده، وكيف انتحر شاب آخر بعد أيام (حسين ناجي يوم ٢٢/ ١٢/ ٢٠١٠م صارخا بأعلى صوته على رأس عمود كهرباء قبل أن يمسك بيديه سلك التيّار العالي منتحرا: كفاية فقرا.. كفاية بطالة)، وكيف قتل شاب ثالث (محمد العماري – ٢٥ سنة) برصاص الشرطة، وكيف تعرّض آخرون (كالأستاذ عصام الغابري) للاختطاف والضرب، ثم لم يعد يمكن إحصاء الإصابات والاعتقالات، بعد أن امتدّت احتجاجات “كفاية فقرا.. كفاية بطالة” إلى مدن عديدة، وانتشرت معها أساليب القمع الوحشي!

من حيث لا يحتسبون

فوجئت جهات عديدة أيضا بانتشار الأخبار حول ما يجري أصلا، وكانت تفصيلية، موثقة، بالمعلومة والصوت والصورة، إذ استطاع ناقلوها اختراق الجدار الحديدي للتعتيم الإعلامي، وخطّ بارلييف للتحصينات الأمنية، بعد أن كان هذا وذاك فيما تحسبه السلطات العاجزة عن منجزات حقيقية في ميادين مكافحة الفقر والبطالة والتهميش والتمييز والفساد، هو أعظم المنجزات الفعلية الرسمية للأنظمة عبر عدة عقود، حتى ظنت نفسها قوىً لا تُقهر، ولهذا لم تكن عملية نقل الخبر والمشهد أمرا اعتياديا يجري ألوف المرات يوميا في مختلف أنحاء الأرض، فقد كان الخروج بالخبر والمشهد من قلب تونس، أشبه بعمل استخباراتي ضخم، يقوم عليه أفراد شعب مقهور، فيتضمن فنون التسلل، والتخفي، والتصوير بأسلوب ما شاعت تسميته الكاميرا الخفية، والبث الإلكتروني على أثير الشبكة العالمية، حتى بدت تونس -لمن لا يعرفها من الداخل- كالقدر البخاري الذي فجرت قوة الاحتقان غطاءه!

وكان من مطالب المتظاهرين على حد تعبير النقابي حسين بالطيب: التخلي عن الحلول الأمنية لمشكلات التنمية والحوار لتحقيق المطالب المطروحة.

وكان جوهر المشكلة حاليا هو تعامل السلطة مع الأحداث وكانت ميزتها من البداية  أنها أحداث اخترقت الطوق الأمني والإعلامي.

وليست تونس إلا مثالا لكثير من البلدان العربية والإسلامية على هذا الصعيد.. ولئن كان “التوريث العائلي” للبلاد والشعوب في نطاق مملكة أو مملكة جمهورية يعبر عن صيغة شاذة لاستيعاب معنى الحكم وما يفرضه من مسؤولية وأمانة، فإن الأخطر من ذلك هو التوريث السياسي الذي باتت السلطات من خلاله قادرة على التعلم من بعضها بعضا، سلطة بعد سلطة، كيف تفرض نفسها فرضا، وتحصن مواقعها بابتكار المزيد من ألوان القمع والفساد لسد ثغراتٍ انكشف أمرها من قبل، ثمّ تحسب نفسها آمنة -أكثر من أسلافها- على تحقيق هدف الخلود في كرسي الحكم، غافلة حتى عن مهمة ملك الموت، وعن استحالة تقدير توقيتٍ لها أو مخطط لمواجهتها!

وبقدر ما يظهر من إبداع متجدد في ذلك التحصين يظهر العجز المطلق عن استيعاب قاعدة لم ينقطع سريان مفعولها قط، أن عنصر المفاجأة هو العنصر الثابت الأول في مجرى أحداث التغيير.

ما كان بورقيبة يضع في حساباته التسلطية أن ينتهي أمره على أيدي بعض من حصن نفسه بهم عندما أحيل إلى التقاعد غصبا عنه يوم ٧/ ١١/ ١٩٨٧م، فهل يمكن الاطمئنان إلى من يحصن نفسه بهم مَن احتل مكانه؟

ولئن قضى بورقيبة في كرسي الاستبداد ٣١ سنة وبات الزعيم الملهم الخالد في السلطة في نظر نفسه، فهل يوجد ضمان لمن احتل مكانه أن يتجاوز الآن مرور ٢٣ سنة على وجوده في السلطة ويحسب نفسه الزعيم الملهم الخالد من بعده؟

ولئن استطاع بورقيبة البقاء زهاء ٤ سنوات في السلطة بعد ثورة الخبز في تونس مطلع عام ١٩٨٤م فهل يستطيع من احتل مكانه أن يضمن لنفسه البقاء بعد تسلطه مجددا على شعب ثائر؟

كفي نواحا ويأسا مع كل تحرك انقلابي مضاد جديد، فكلّ تغيير في التاريخ كان يأتي من حيث لا يحسب أحد حسابه، مهما أبدع من إجراءات استثنائية واحتياطية يتفوق بها عمن سبق وأزاحه بنفسه من السلطة -أو أزاحه الموت- فحل مكانه.

ليس المغزى فيما يجري في تونس كامنا في حجمه وما هو بالحدث البسيط المحدود، إنما في مغزاه -الذي لا يقتصر على تونس قطعا- في أن تحويل البلد إلى صندوق مغلق سياسيا وإعلاميا وقمعا أمنيا، لا بد أن يرفع درجة الغليان الشعبي إلى مستوى الانفجار، وعندما تنطلق شرارة الانفجار، لا يمكن تقدير موقعها مسبقا؛ كما لا يمكن تقدير ما توصل إليه من تغيير ومتى. والفائز من يسعى أن يجد لنفسه مكانا في جبهة الشعوب قبل فوات الأوان، ليكون جزءا من صناعة مستقبل كريم، وكيلا يجد نفسه على هامش ما يقع من تغيير، قادم آجلا أو عاجلا، بمشاركته، أو على أيدي جيل جديد وقيادات جديدة، تظهر على الساحة، وتحقق أهدافها المشروعة، وتفرض إرادتها، من حيث لا يحسبون له حسابا.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

الاستبدادالتغييرتونسثورة