ــــــــــ
دخل على أبيه وقد تجاوزت الساعة الثامنة مساء، وقال:
– هل لديك بعض الوقت؟
ورفع الأب بصره عن كتاب بين يديه، وأجاب باسما:
– خيرا.. لدي وقت إذا كان لأمرٍ يهمك.
– مللتُ من الدراسة وأودّ مسامرتك.
وتحولت الابتسامة إلى ضحكة وهو يقول مداعبا:
– ملِلتَ ولم تبدأ الدراسة إلا قبل ساعة واحدة!
واتخذ سامر مجلسه قبالة أبيه وهو يقول:
– المشكلة فيما أقرأ، فعلي التحضير ليوم غد، ويوم غد نناقش فلسفة سارتر، هل تعلم من كان سارتر؟
ووارى أبوه ابتسامته قائلا:
– سمعت به!
– أنت تعرفه بالتأكيد، وأستغرب وجود أناس يفكرون بهذه الطريقة، بل ووجود آخرين يجعلون أفكارهم مادة للدراسة.
قال الأب:
– رويدك، ما كل ما قال به سارتر مرفوض، ولا ينبغي الاطلاع على ما يحب المرء فقط.
ليست هذه المرة الأولى التي يلجأ فيها سامر إلى أبيه ويحدثه عن بعض ما يقرأ في كتبه المدرسية، وعن جولات النقاش بينه وبين أقرانه ومع أساتذته. وكان الأب فخورا بابنه الذي لم يتجاوز السادسة عشرة وأصبحت له شخصيته المتميزة، وبات حريصا على بيان ما يعتقد ويرى في مدرسته، وفي أي مجلس شارك فيه، وما كان كثير المطالعة أو غزير الثقافة، ولكنه يرفض أسلوب التلقي دون تفكير، لا سيما في حصص التاريخ والاجتماع والفلسفة، فيثير هو النقاش إن لم يُعرض الموضوع على النقاش، وكثيرا ما يردّ على نظريات ومقولات يسمعها للمرة الأولى، ببعض ما استوعب من معانٍ أساسية في الأصول الإسلامية، ويفحم الآخرين بالحجة المنطقية، ثم يغيظه أن يعودوا ثانية إلى ما دأبوا على ترداده من قبل.
ووضع الأب علامة عند الصفحة التي وصل إليها من الكتاب ووضعه على الطاولة بجانبه، ليلتفت إلى ابنه بكليّته، ويحدثه كما اعتاد بين الحين والحين، ودار الحديث هذه المرة عن الوجودية والوجوديين، والفلسفة والفلاسفة، وبعض من أسماهم سامر “المتفلسفين المفلسين“، ثم عن الفلسفة والدين، وأسلوب النقاش وما يفيد منه وما لا يفيد.
ومرت ساعة على هذا المنوال، وهمّ سامر بالخروج من الغرفة ليعود إلى دراسته، عندما لمح أباه وهو يمسك مجددا بالكتاب الذي كان يقرأ فيه، فقال:
– ما هذا الكتاب يا أبت؟
وقلب الأب الكتاب بحركة تلقائية رغبة في ألا يرى ابنه الغلاف، وقال:
– ليس فيه ما يفيدك.
وزاد الجواب من حب الاستطلاع لدى سامر فرجع خطوة باتجاه أبيه وهو يقول:
– وهل يفيدك أنت؟
وشعر الأب بشيء من الحرج وهو يشدّد قبضته على الكتاب كأنما يخشى أن تمتد إليه يد ابنه، وقال:
– الواقع أنني أقرؤه كارها!
وارتسمت علامات الدهشة على وجه ابنه وهو يردد:
– تقرؤه كارها، ومن يجبرك على ذلك؟
وأدرك الأب أن لا بدّ من شرح الأمر لابنه، فقال:
– هذا الكتاب قرأت عنه في الآونة الأخيرة كثيرا من النقد الشديد والدفاع المستميت، فسعيت للحصول على نسـخة منه، ولكن وجدت ما قرأت منه حتى الآن أسوأ من جميع ما قرأته عنه، ولكن أكملُه إلى النهاية، لأنني عازم على كتابة مقالة صحفية حوله.
وكأنما زاد هذا الشرح الأمر تعقيدا على سامر بدلا من تبسيطه، فجلس من جديد وقال:
– قرأتَ أنه سيّئ وسعيت لقراءته، وتقرؤه كارها فلم يعجبك محتواه ثم تكتب عنه! كنت أحسب أن قراءة شيء بالإكراه والكتابة عنه لا يحدث إلا لتلاميذ المدرسة أمثالي، هل هو كتاب من كتب سارتر؟
وضحك الأب ضحكة طويلة قبل أن يعتدل في جلسته ويقول لابنه مشبعا فضوله:
– كلا، ليس هو من كتب سارتر، ولم يكن عندي مانع أن أقرأ بعضها، فالرجل مفكّر وإن لم أقبل بفكره، إنّما هذا الكتاب قصة، وهي ليست قصة سخيفة فقط، بل لا أدب فيها ولا حياء، تضر ولا تنفع، وتثير الاشمئزاز لا المتعة، وقد أثار نشرها انزعاجَ كثير من الناس في بلادنا، فأحببت معرفة ما فيها، وعزمت على نشر مقال حولها.
ولزم سامر الصمت لحظات يفكر بكلمات أبيه، ثم قال:
– أظنني عرفت تلك القصة، فكأنني قرأت بعض العناوين عنها مؤخرا.
– نعم لقد كتب كثيرون عنها، فأحدثت ضجة تلفت الأنظار.
قال سامر بصوت خافت كمن يحدّث نفسه.
– سخيفة.. مزعجة.. وأثارت ضجة..
– لقد كُتب عنها كثيرا فذاع أمرها، ومعظم ما يكتب عنها، إما للتنديد بمحتواها، أو لمهاجمة الناقدين والدفاع عن صاحبها مع تجنب ذكر المحتوى غالبا، فهو شاهد على نفسه.
قال سامر:
– هل يمكنني الاطلاع عليها؟
وفوجئ الأب بالسؤال بعد كل ما قال في ذمّ تلك القصة البذيئة، ووجد نفسه يقول مراوغا:
– وهل تريد أن تكتب عنها أيضا؟
ولم يكن السؤال في حاجة إلى إجابة، فقال سامر:
– لقد أثرتَ فضولي.. لا أكثر.
– أنا لا أنصحك إلا بقراءة كتب الأدب الراقي والعلم النافع، فانس هذا الكتاب.
ولا يبدو أن سامر كان يريد فعلا قراءة الكتاب، وبدا عليه أنه قد اكتفى بما سمع، ولكنه كعادته لا يكفّ عن النقاش، فقال وهو ينتصب واقفا ليغادر الغرفة:
– لا أستطيع أن أفهم تماما.. أنت لا تريدني أن أقرأها، ولا تنصح إذن أحدا بقراءتها، ولكن لا يكفي أن يكتب غيرك عنها، فتشارك في الكتابة أيضا، علام تثير فضول الناس؟
وسلم سامر على أبيه خارجا، وتأخر رد السلام كأنما انعقدت شفتا الأب عن الكلام لحظات، قبل أن ترتسم عليهما بسمة الرضى والمحبة، ثم نظر إلى الكتاب في يده، وألقى به في سلة المهملات!
نبيل شبيب