ـ
مساجد
بعض المتابعات الإعلامية وشبه الإعلامية تتحدث (مثلا) عن مصير جامع قرطبة بعد سقوط الأندلس في نطاق التعبير عن الانزعاج من زوبعة افتراءات انطلقت كرد فعل على استعادة وظيفة جامع آيا صوفيا للتعبد فيه. والنتيجة هي التسرع في طرح مضمون تلك المتابعات، فالمقارنات الاحتجاجية لا تحقق الغرض، وليست بحد ذاتها مقارنات مقصودة على الأرجح.
ويحسن التساؤل قبل تناقل هذه المتابعات وأشباهها:
١- على افتراض إعادة جامع قرطبة كجامع وإلغاء وجود الكنيسة في قلب مبناه، هل ستدعو تلك الأقلام نفسها إلى إعادة مبنى جامع آيا صوفيا إلى ما كان عليه ككنيسة من قبل؟
٢- صحيح أن كثيرا من أصحاب الحملات العسكرية ضد المسلمين قد دمروا المساجد عبر حملاتهم ومن بعد، فهل يمكن أن يدعو مسلم إلى “معاملة بالمثل” – كما يقال – أي إلى تدمير الكنائس، وهو يعلم أن الإسلام لا يبيح ذلك؟
٣- هل يصلح الانزلاق إلى مواقف توهم بأن الحروب مقبولة كصراعات دينية، بينما يبيح الإسلام ما كان منها لرفع الظلم عن الإنسان ورد العدوان عن الأوطان، وأصبح هذا مما يقول به – نظريا على الأقل – “القانون الدولي” حديثا؟ ألا ينبغي عند مراجعة التاريخ ملاحظة ما كان متعارفا عليه دوليا في الماضي، ومن ذلك أنّ الطرف المنتصر عسكريا تحقّ له أمور لم تعد مقبولة حديثا؟
٤- أليس البديل الأفضل من الانزلاق إلى ردود منفعلة ومتشنجة تجاه زوبعة افتراءات نعلم أنها تقليدية قديمة، تتكرر بسبب حدث مستجد كما كان مع آيا صوفيا، ومن دونه.. أليس الأفضل أن يسعى العقلاء والمنصفون من مختلف الانتماءات إلى رؤية مشتركة لا تشنج فيها عند التعامل مع الأحداث، بما في ذلك ما تجدد الحديث عنه من الانتهاكات الإجرامية القديمة والحديثة؟
قد يساعد في البحث عن رؤية أوضح أن نفكك الحدث بدلا من طرحه هكذا وكأنه يختزل التاريخ في صلاة جمعة واحدة، ولنرجع أولا إلى الحدث كإجراء “إداري” بغض النظر عن أبعاده الدينية والتاريخية:
أقيمت صلاة الجمعة يوم ٢٤ / ٧ / ٢٠٢٠م في جامع آيا صوفيا الكبير / Ayasofya Cami في إسطنبول، وكان كمال أتاتورك قد أغلق سنة ١٩٣١م أبوابه في وجه المصلين، واستصدر سنة ١٩٣٤م قرارا وزاريا بتحويله إلى متحف، وبعد سنة واحدة نفّذ هذا القرار وأزال كثيرا من معالم المسجد كالمنبر والسجاد، فكانت صلاة الجمعة هذه الأولى منذ ٨٩ سنة،
وعاد المسجد الجامع إلى وظيفته الدينية دون تغيير ما يندرج تحت وظيفة إضافية للمبنى كمتحف تاريخي، وهذا تبعا لقرار المحكمة الإدارية العليا في تركيا يوم ١ / ٧ / ٢٠٢٠م، أي القرار ببطلان مشروعية قرار وزاري علماني قديم صدر في عهد أتاتورك عام ١٩٣٤م.
ثم لنرجع ثانيا إلى الحدث ببعده الديني:
صلاة الجمعة هذه تستأنف ما كان المسجد الجامع عليه منذ ٥٦٧ عاما مضت، أي منذ عام ١٤٥٣م عندما فتح محمد الفاتح القسطنطينية عاصمة الإمبراطورية البيزنطية من قبل، فسميت “إسلام بول” أي مدينة الإسلام، ولاحقا إسطنبول، وكان من إجراءاته تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، ولا يمكن القول إن محمد الفاتح انتهك القوانين أو الأعراف الدولية في عهده، فقد كان ما صنعه متعارفا عليه في ذلك العصر لحالات السيطرة بقوة السلاح. وقد عمد محمد الفاتح إلى إدراج جامع آيا صوفيا في “الأوقاف” المحظور بيعها، وبقي جامعا يصلى المسلمون فيه، حتى صدور القرار الوزاري المشار إليه بعد ٤٨٢ عاما.
الجدير بالذكر أن المبنى لم يفقد طوال تلك القرون اسمه القديم “آيا صوفيا”، رغم أن المعنى اللغوي للكلمة لا يتفق مع المعتقدات الإسلامية، فمعناها لغويا: “الكلمة المقدسة”، وهو التعبير الذي استخدمته الكنيسة منذ عهد “أوجستينوس” المتوفى عام ٤٣٠م، كناية عن “الأقنوم الثاني” أي المسيح عليه الصلاة والسلام، من بين الأقانيم الثلاثة فيما يسمى “الثالوث المقدس” وفق ما استقرت عليه التعاليم الكنسية منذ القرن الرابع الميلادي.
ولنرجع ثالثا إلى الحدث ببعده التاريخي، وعلى وجه التحديد ما كان يصنع بالمبنى نفسه قبل أن يصبح مسجدا:
أول كنيسة نشأت في المكان المعني هي “الكنيسة الكبرى” التي يحتمل أن يكون الإمبراطور قسطنطين الأول قد بدأ ببنائها قبل وفاته ٣٣٧م، واكتمل البناء سنة ٣٦٠م.
هذه الكنيسة أحرقت بأيدي أتباعها سنة ٥٣٢م، وذلك في صراع أسفر عن تدمير نصف مدينة القسطنطينية وعن مقتل عشرات الألوف من سكانها، وقد دار هذا الصراع بين الكنيسة والقصر الإمبراطوري، وسمّى في كتب التاريخ الغربية “اضطرابات نيقيه” وتعني الكلمة اضطرابات “النصر”.
لم تكن توجد علاقة لغير أتباع الكنيسة بتدميرها.. واستغرق بناء كنيسة بديلة زهاء ٥ سنوات فنشأت سنة ٥٣٧م “كاتدرائية القسطنطينية” وأصبحت المقر الأكبر للكنيسة الأرثوذوكسية والإمبراطورية البيزنطية.
هذه الكنيسة الثانية أيضا لم يدمرها أحد من خارج النطاق الكنسي، بل دمرها أحد القادة الصليبيين الأوروبيين سنة ١٢٠٤م في مسار ما عرف بالحملة الصليبية الرابعة، وخلالها دمرت مدينة القسطنطينية عموما ولا سيما كنائسها الأرثوذوكسية.
أصبح المبنى يحمل اسم “كاتدرائية الروم الكاثوليك”، واستمر ذلك حتى سنة ١٢٦١م، أي عندما استعادت الإمبراطورية البيزنطية الأرثوذوكسية قوتها وتراجعت الإمبراطورية الرومية الكاثوليكية، ومن ذلك الحين استعاد المبنى اسم الكنيسة الأرثوذوكسية مجددا حتى عام ١٤٥٣م.
لا يوجد في حدث آيا صوفيا الآن ما يمكن ربطه بصورة موضوعية ربطا سلبيا بتلك الأبعاد الدينية والتاريخية، ولا ينفي ذلك أنه حدث يثير ردود فعل ترتبط بتلك الأبعاد.
إن القرار الوزاري المرفوض قبل زهاء ٩ عقود وإن القرار القضائي التركي الحديث المشروع، هما حول مسألة استخدام مبنى آيا صوفيا مسجدا أو متحفا، وهنا لا ينبغي القبول بتجييش العواطف عبر حبك أزمة “سياسية” وسرد حكاية “تركية وعثمانية” وأخرى “إسلامية ومسيحية”.
ولا ينبغي أيضا أن يغيب عن أذهاننا:
إذا كانت استعادة الصلاة في جامع آيا صوفيا قضية “إسلامية” فهي في الوقت نفسه قضية تصلح للاعتماد عليها بمنظور إنساني جامع، وأهم معالمها بهذا الصدد أنها تعطي شهادة تاريخية على ضرورة تلاقي العقلاء والمنصفين في أسرتنا البشرية المشتركة، وإن تعددت انتماءاتهم الدينية وغير الدينية، على مبادئ ملزمة، وقواعد للتعامل ملزمة، هي ما يمكن أن يكتسب بالتلاقي عليها مفعول “قانون دولي” قويم تدريجيا، بعد أن أضاع تعامل شرعة الغاب مع الإنسان والأوطان مفعول القانون الدولي العام، وهذا على امتداد قرن ونصف القرن على الأقل، فما نعايشه هو نتيجة مباشرة لانحرافات ما يسمى “المجتمع الدولي” المزعوم بأركان قواه المعدودة المهيمنة، فبات مصدر ضرر كبير بالأسرة البشرية، بل من عوامل تزييف انتمائها الإنساني المشترك بدلا من التداعي لخدمتها والحرص على العدالة في حماية حقوق الإنسان الفرد وحقوق الفئات المتعايشة على كوكب مشترك.
وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب