رمضان كما نرجو

خلل في التعامل مع تعاليم إسلامية

رمضان

رمضان كما نرجو هو رمضان الذي نغير أنفسنا معه عاما بعد عام وفق ما نفهم من حكمة تشريعه شهرا للصيام، بحيث يتحقق في دنيانا المقصود التكويني التأهيلي الحضاري، ويتحقق في آخرتنا الجزاء المنشود بفضل من الله ورحمة.

ونحن نتعلم مع حلول رمضان كل عام أحكام الصيام وآدابه، ونحث بعضنا على التلاوة، ختمة أو أكثر، ونراجع سبل التربية على الصبر، ونحفظ أدعية مأثورة (وغيرها) ونرددها، ويتسابق القادرون منا على الجود ببعض ما لديهم لتخفيف بعض المعاناة عن أهلنا، كما نستذكر ما نعرفه من قصص الفتوحات والانتصارات.

رغم ذلك كله – وكله مشروع ومطلوب على الدوام – نعلم بوجود خلل كبير ونحن نستقبل رمضان ونودعه، ولو أدركنا كنه الخلل وعالجناه لما تكرر لدينا هذا الإحساس المرير، عاما بعد عام.

لقد تعلمنا كبارا وصغارا، إناثا وذكورا، أن رمضان شهر الصوم والقرآن، وشهر الصبر والغفران، وشهر الجود والإحسان، ويذكرنا أهل العلم والبيان بما كان من أحداث مفصلية في تاريخنا وقعت في شهر رمضان، منها غزوة بدر وفتح مكة والقادسية وعين جالوت وحطين وغيرها، مما أنهى حقبا سوداء في مجرى التاريخ وأضاء جوانبه.. ثم ماذا؟

ها نحن نستقبل رمضان هذا العام أيضا بأحاسيس الألم والشعور بالذنب، وبتساؤلات حائرة ما بين واقعنا الحافل بالتضحيات والمعاناة، وبين مواساة أنفسنا لأنفسنا بمختلف الحجج.

لا تضيف محاولات الإجابة جديدا عندما نكرر تذكير أنفسنا بالصيام والقيام وغض البصر وحفظ اللسان وبالإخلاص في التلاوة والدعاء والطاعات، وبمضاعفة الجود والإحسان، وهكذا، ومرة أخرى: كل هذا مشروع ومطلوب، ومعاذ الله أن يستهين بشأنه قلب مؤمن، ولكن هل يجيب تكرار ذكره السؤال: أين الخلل؟

وأبعد من ذلك:

لا نستهين بفريضة الحرص في رمضان أيضا على إحياء روح الجهاد بالنفس والمال، ولكننا نستشعر كيف أصبح أداؤها صعبا على كثير منا بعد أن استشرى الخلل واقتحم ساحات من رفعوا ألف راية وراية للجهاد في صيغة القتال وتفرق أكثرهم في ألف سبيل وسبيل إلى درجة الاقتتال.

إن أنكرنا وجود خلل كبير، أين ما تحقق على أيدينا إذن ولو بمقدار عشر معشار انتصارات رمضان في بدر والقادسية وحطين وأمثالها؟

الأجوبة جاهزة غالبا: لا يضيع عند الله إخلاص المخلصين وحسن عطائهم ولو كانوا أفرادا من كثرة كاثرة، نعم ولكن ليس هذا شأننا فهو في علم الغيب إلى يوم الحساب.

ليس لنا من أمر النصر وموعده شيء، نعم ولكن لا ينفي ذلك أننا مسؤولون عن أنفسنا وعن إنجازاتنا في حقبة زمنية نعيشها، أي قبل انقضاء أعمارنا.

النصر من عنده وحده يؤتيه من يشاء متى شاء، نعم ولكن الله جلّ وعلا وعد به من يحقق شروطه، وهذا ما نُسأل عنه، وإلا فسيأتي الوعيد بالاستبدال بعد الوعد بالنصر.

أين الخلل في تعاملنا مع رمضان إذن؟

لا يزعم كاتب هذه السطور أن لديه جوابا شافيا، إذ يطرح ما لديه، ويتطلع إلى الصواب الجماعي عبر تكامل الأجوبة، لنزيل الخلل معا، ونأمل ألا يصبح ذلك مستحيلا فقد أفسدت آفة (أنا خير منه) الكثير في أعماق الأنفس وفي واقع العلاقات مع بعضنا بعضا.

رمضان – بحدّ ذاته – لا يغير أحدا، إنما مواصفات الفرد الذي يستقبله ويودعه، هي التي تجعله مؤهلا ليحقق عبر رمضان مزيدا من الارتقاء.

إن جوهر المشكلة في رمضان ودون رمضان هو الغفلة عن صناعة الإنسان القادر موضوعيا على حمل المسؤولية في أي موقع شغله وفي نطاق أية ظروف من حوله.

نحن نستقبل رمضان بمواصفات أخرى غير مواصفات المسلم المؤمن الواعي العامل القادر على استيعاب دينه وأركان دينه واستيعاب واقعه والواقع من حوله كي يتفاعل مع الطاقات “الرمضانية” الإضافية المتميزة ويوظفها في تغيير نفسه ليتغير به ما حوله.

نعلم أن القرآن الكريم فيه شفاء للمؤمنين ورحمة، ولكنه لا يزيد الظالمين إلا خسارا.

نعلم أن الدعوة النبوية وصلت إلى قلب أبي بكر، ولكنها هي نفسها لم تصل إلى قلب أبي لهب.

كذلك نعلم أن رمضان يتجلى فضله على من يستحق ذلك الفضل، ولا يصل لغير المستحق.

إن إيجاد شروط استحقاق فضل العبادة هو خطوة الإعداد الأولى، هو تغيير ما بأنفسنا أولا، ولكننا قلبنا المعادلة رأسا على عقب، وأغفلنا أن البداية في أيدينا، ولم نبدأ، فتحوّل أداء العبادات إلى طقوس وكلام.

ولأننا قلبنا المعادلة فقد قلبنا السؤال أيضا، إذ ندفع المسؤولية عن أنفسنا ونتساءل بمرارة: علام لا تغير العبادات أنفسنا وواقعنا؟

كلا، المشكلة ليست في العبادات المفروضة معاذ الله، إنما هي مشكلتنا نحن، والأصح هو أن نتساءل تعجبا واستنكارا: كيف نتوقع أن تغيرنا عبادات جعلناها أقرب إلى طقوس وكلام؟

إنما تعود المعادلة التي قلبناها رأسا على عقب إلى وضعها الطبيعي عندما ندرك ونطبق أن:

الإيمان أولا، ومعه المبادرة للعمل

الإخلاص ثانيا، ومعه تحصيل المعرفة وتنمية الوعي

العلم ثالثا، ومعه التخصص والتفوق والكفاءة والمهارة

الأخلاق رابعا، ومعها حسن الإدارة والمحاسبة المتجددة والشفافية

التعبد المفروض خامسا، ومعه ما سنحاسَب عليه أيضا من إنجاز دنيوي يرتقي بالإنسان وحضارته وثقافته ومعيشته فتلك رسالتنا في دار الاختبار، ويوجب حملها وأداؤها تحديد الأهداف في دنيانا وتخطيط العمل في دنيانا والتخصص مع التكامل والتعاون مع سوانا في دنيانا، جميع ذلك هو مما نحمل مسؤوليته ومسؤولية تنمية قدراتنا لأدائه، في هذه الحياة الدنيا وفق متطلبات كل مرحلة ومستجدات تسابق عطاءاتنا في واقع عالمنا وعصرنا.
ولا نغفل إطلاقا عن أن جميع ذلك -بما فيه التعبد المفروض- يدور حول محور ارتباط صناعة شخصية الفرد وفق منارة (احفظ الله يحفظك، إلى آخر الحديث)

جميع ذلك يمثل لبنات بناء الشخصية المؤهلة، ليصنع صوم رمضان (وكذلك الشهادة والصلاة والحج والزكاة) بها ومن خلالها ما يستأنف طريق إنجازات الأوائل، وآنذاك نتأهل لرمضان فيَحْسُن صيامنا، وتكون تلاوتنا كالذكرى التي تنفع المؤمنين، ويصبح دعاؤنا مستجابا بفضلٍ من رب العالمين، وآنذاك أيضا يكون الجود والإحسان ويكون الصبر والجهاد، أدوات تقربنا أفرادا وجماعات من الأمل في نوال مرضاة الله في الدنيا والآخرة، وهذا شامل لتحقيق الأهداف الدنيوية المشروعة لأنفسنا وللإنسان في عالمنا وعصرنا.

وأستودعكم الله ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب

رمضانمراجعات