(لله الحمد من قبل ومن بعد.. لقد مضى ١٥ عاما على تحرير "خواطر مريض" هذه ونشرها، وها هي تنشر الآن تباعا في سبع حلقات في باب "ذاكرة.. سويعات شخصية" من هذه الإصدارة من مداد القلم، ابتداء من يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠١٧م، بعد نشرها يوم ٢٨/ ٩ / ٢٠٠٢م في إصدارة سابقة، عقب دخولي المستشفى لأول مرة لإجراء عملية جراحية "بسيطة" بمعنى الكلمة، إنما تسابقت هذه الخواطر إلى القلم، في تلك الأيام ما بين الفحص الأول والخروج من المستشفى.. ولله الحمد من قبل ومن بعد)
ما أسخف زعم من يزعم أنّ المصطلحات العلمية العربية ثقيلة على اللسان، ولهذا يشيع -وفق ذلك الزعم- استخدام ما يقابلها من مصطلحات أجنبية!
لنقارن على سبيل المثال بين التسمية العربية "التصوير المقطعي المحوري" والتسمية الألمانية "Kernspintomographie" وما يقابلها ويشابهها بالإنجليزية أو الفرنسية.. فإذا كانت التسمية العربية هي الأثقل على ألسنة أصحاب ذلك الزعم، فالمشكوك فيه هو عروبة ألسنتهم، وعروبة القلوب التي تحرّكها والعقول التي توجّهها!
¤ ¤ ¤
لا توجد فوارق "لفظية" كبيرة بين الألمانية والإنجليزية والفرنسية وعدد آخر من اللغات الغربية، لكثير من المصطلحات والتسميات للأجهزة والتقنيات الحديثة والمبتكرة، مثل التصوير المقطعي المحوري الذي يعتمد على الموجات الضوئية والمغناطيسية ثمّ على ترجمة حصيلة قياساتها عبر الحاسوب إلى صور مرئية!
رغم عدم وجود فوارق لفظية كبيرة، نجد كلّ فريق من أهل الغرب حريصا على استخدام لغة بلده، على المستويات الرسمية، وفي القطاعات العلمية، على مستوى "النخب" الثقافية، وعلى المستويات الشعبية.. وهذا رغم ما يوجد من أصول مشتركة بين اللغات الغربية، ورغم الأرضية الثقافية الحضارية المشتركة بين البلدان الغربية!
¤ ¤ ¤
من لا يحترم لغته لا يحترم نفسه، ومن لا يحترم نفسه، لا يحقّ له الانتساب إلى أمّة تحترم نفسها.. فما أشدّ التزوير في مزاعم الذين يدّعون أنهم هم "النخبة" المبدعة والمثقفة والقيادية في المجالات السياسية وسواها.. ثم تراهم في مقدّمة من يمسكون بالمعاول التي يحاولون أن يهدموا بها بأيديهم لغة أمّتهم.
¤ ¤ ¤
لا يسهل اختيار اللفظة المناسبة لتسمية كلّ جديد، ولكن من السذاجة أو الحماقة أو هو الاستخفاف بعقول البشر، أن يرّدد بعض ضعاف النفوس، أن الوضع الراهن لاستخدام اللغة الأجنبية لا سيما الإنجليزية في بلادنا "العربية" إنّما هو من باب "من تعلّم لغة قومٍ أمِن شرّهم".
ذاك هدف مفروض وغرض نافع، ولكنّه لا يتحقّق بسياسات تجعل جامعاتنا ومعاهدنا العليا وكثيرا من مراكز الدراسات والبحوث لدينا أعجمية الفكر واللسان معا، ناهيك عن صور منكرة مضحكة شاذّة لاستخدام الكلمات أو الألفاظ الأجنبية بحروف أجنبية حينا أو عربية حينا آخر، في تسمية بضائع وسلع وخدمات معيشية، أو تسمية المحلات التجارية، أو نشر الإعلانات الدعائية، أو حتى في "الكلام" اليومي بين البشر من "العرب"، مع ما يقترن بذلك من وهم الانتساب إلى "نخبة مثقفة".. وهو في واقع الحال انتساب إلى "نخبة" أضاعت ضميرها اللغوي وحسّها الوطني وذوقها الإنساني معا.
¤ ¤ ¤
ليس الأمر مجرّد "أخطاء" إدارية يمكن أن تُغفر لأصحابها، بل هو كذبة كبرى وخيانة عظمى لا ينبغي التهوين من شأنها.. أن ينشروا الزعم القائل إن اللغة العربية لا تستوعب العلوم الحديثة ومصطلحاتها، وأن يبنوا على هذا الزعم الكاذب ما وصلنا إليه من نشر اللغة الأجنبية لا سيّما "الإنجليزية"، وجعلها هي اللغة المعتمدة في التدريس الجامعي على أوسع نطاق في معظم البلدان "العربية".
إنّ ما كتب عن ذلك فيه الكفاية لمن أراد الجواب العقلاني المنطقي من الناحية الفكرية والنظرية.. وإنّ فيما أنجزته وقدّمته المجامع اللغوية العربية على امتداد العقود الماضية وما يمكن أن تقدّمه الآن وفي المستقبل ما يُسقط الزعم المذكور من أساسه.. وإنّ الجواب الواقعي العملي موجود أيضا في مثال سورية، وهي -في حدود ما أعلم- البلد الوحيد الذي يعتمد العربية اعتمادا كاملا في التدريس وفي المناهج الجامعية في سائر الفروع منذ عشرات السنين.. ولا تعترض الخرّيجين السوريين أيّ مشكلة في متابعة تخصّصاتهم ومتابعة آخر ما يتمّ إنجازه في ميادين التطوّر الحديثة على المستوى العالمي.. (كان هذا قبل أن تدمّر السياسات الأسدية ما سبق من إنجازات، والغريب أن التدمير تضاعف بعد ما يسمّى خطبة القسم الثانية لبشار، والتي ورد فيها الحديث عن ضرورة "دعم" اللغة العربية، فهل كانت إشارة الشروع في ذلك التدمير!)
¤ ¤ ¤
المشكلة الحقيقية في "التبعية اللغوية" مشكلة فريق لا يتقن العربية، ولا يريد أن يتقنها، ولا يفهم ما تعنيه صناعة الحضارة ولا يريد أن يتعلّمها، ثمّ هو لم يحقّق على مدى عشرات السنين نجاحا في ميدان من الميادين العلمية والتقنية من خلال سياسة "التبعية اللغوية" التي يمارسها، ولكن يتسلّط رغم ذلك على صناعة القرار، بما يرسّخ من هذه التبعية اللغوية وسواها من ألوان التبعيات الأجنبية.
¤ ¤ ¤
زعموا أنّ اللحاق بركب التقدّم الحديث، يُكره الطرف الأضعف على اتّباع لغة مَن يقود ذلك الركب، وهو الآن الولايات المتحدة الأمريكية. والكلام صحيح بحدود ما يعني إتقان لغة التقدّم الحديث بقصد الاستيعاب والترجمة.. وليس صحيحا إذا أصبح وسيلة من وسائل التبعية والخضوع وترسيخ الهيمنة الأجنبية، فمن المستحيل أن يساهم ذلك في تحقيق أيّ شكل من أشكال التقدّم.
¤ ¤ ¤
علام لم تنتشر التبعية اللغوية للإنجليزية الأمريكية في اليابان، أو ألمانيا، أو فرنسا، أو الدول الاسكندنافية، أو سواها من الدول المتقدّمة، التي يتقن معظم أهلها اللغة الإنجليزية، ولكنّ التدريس في جامعاتهم، والعمل في مراكزهم الفكرية، وسوى ذلك من الميادين، كان وما يزال وطنيا في سائر مراحل مسيرة تقدّمهم!.
كيف بنى الأوروبيون حضارتهم الحديثة وخرجوا من عصورهم الوسيطة المتخلفة، رغم أنّهم لم يأخذوا قبل بضعة قرون باللغة العربية في جامعاتهم ومناهجهم وبحوثهم، مع ما أخذوه آنذاك من أسباب التقدّم الحديث وعلومه بترجمته عن اللغة العربية، من قرطبة وبغداد وأخواتهما من عواصم الحضارة الإسلامية المزدهرة؟
¤ ¤ ¤
دعوا التعليلات المخادعة جميعا، فجوهر المشكلة أنّ ما نعايشه تبعيّة لغويّة على أدنى مستويات الروح الانهزامية المراد فرضها فرضا، بما يساهم في تدمير شخصية الفرد وتكوين المجتمع إسهاما مباشرا.
لا يقبل بذلك مخلص لأمّته وبلاده ودينه، فالتخلّص من هذه التبعية -وسواها من التبعيات الأجنبية- جزء من الواجب المفروض للنهوض في الحاضر والمستقبل.
وليس ترسيخ التبعيّة اللغوية في الجامعات ومراكز الفكر وعبر وسائل الإعلام وسواها، إلاّ شكلا بشعا من أشكال خيانة الدين والأمّة والبلاد، عبر المشاركة المباشرة في تدمير شخصية الفرد وتكوين المجتمع، في الحاضر والمستقبل.
نبيل شبيب