تحليل – قوارب الموت بمنظور أوروبي

ولد مصطلح "قوارب الموت" في النصف الثاني من سبعينات القرن الميلادي الماضي، عندما انتهت حرب فييتنام بسيطرة فييت كونج على الجنوب، ومحاولة الملايين الهجرة من بلادهم، وكانوا يقصدون سواحل بعيدة، فأوضاع دول الجوار لم تكن تختلف بأنظمتها الاستبدادية عن الدولة الشيوعية في فييتنام، وقد وجد كثير من الناجين من الموت غرقا بلدانا تؤويهم، كألمانيا البعيدة عن فييتنام، والتي يعيش فيها حاليا ما بين ١٠٠ ألف و١٢٥ ألفا من أصل فييتامي.

 

"الاتحاد الأوروبي منظمة قيم"!

قوارب الموت هذه الأيام تقصد السواحل الأوروبية الأقرب جغرافيا بكثير، ولكن نسبة من يلقون حتفهم غرقا أصبحت أعلى بكثير مما كان بعد حرب فييتنام، ويظهر حجم المأساة للعيان فيترك آثاره بقوة أكبر بعد تطور الوسائل التقنية لنقل الأخبار، واقتحام مشاهدها المأساوية للبيوت، مع ما تعنيه لزهاء مليوني إنسان يتوجهون إلى أوروبا سنويا، بحثا عن السلامة وفرارا من أفاعيل "الفوضى الهدامة" التي انتشرت، أو نشرت، في عدد كبير من البلدان العربية، ما بين العراق شرقا عبر سورية ومصر حتى ليبيا غربا، وكذلك فرارا من البؤس في أنحاء القارة الإفريقية وقد انتشر بمختلف أشكاله منذ زمن بعيد، ليمثل الوجه الأسود من مخلفات الإرث الاستعماري الأوروبي.

رغم تضخيم المشكلة في أوروبا وعدم بذل ما يكفي من جانب السياسيين والإعلاميين للفصل بينها وبين مشكلة الإرهاب وفق حملات اليمين المتطرف، لا تعتبر مشكلة اللاجئين بلغة الأرقام كبيرة بالمقارنة مع مناطق أخرى من العالم، سواء من حيث القدرة المالية والاقتصادية للتعامل معها، ‎أو من حيث المقارنة المجردة مع عدد اللاجئين والمشردين إلى بلدان غير أوروبية، كالأردن ولبنان وتركيا، وفيما مضى إلى سورية أيضا، قبل أن تحتل في هذه الأثناء المرتبة السوداء العليا على صعيد تعداد المشردين عنها والنازحين فيها على السواء.

وتقول المفوضية العامة لشؤون اللاجئين إن نسبة اللاجئين إلى لبنان مثلا تجاوزت ٢٥ في المائة من عدد سكانه، أما في الاتحاد الأوروبي الذي يقطنه ٥٠٠ مليون نسمة، فقد بلغ عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى الأراضي الأوروبية فعلا زهاء نصف مليون عام ٢٠١٤، أي ما يعادل واحدا في الألف من عدد السكان، بينما ارتفع عدد اللاجئين خارج حدود مواطنهم الأصلية في أنحاء العالم إلى ٥٧ مليونا عام ٢٠١٤.

 

"ميركل.. أوقفي الموت الجماعي"

من حيث عدد السكان في كل دولة، تتفاوت نسبة اللجوء إلى أوروبا بين بلد وآخر فترتفع إلى أكثر من ٥ في المائة في السويد وتهبط إلى نصف في المائة في قبرص، ولا علاقة لذلك بالوضع الاقتصادي، فألمانيا تحتل المرتبة الأولى اقتصاديا وماليا، ولكن نسبة اللجوء إليها أقل من المعدل الوسطي الأوروبي، وإن احتلت المرتبة الثانية في هذه الأثناء على صعيد استقبال المشردين السوريين، ولكن يتضاءل فيها مفعول "العامل الإنساني" الأكبر تأثيرا في بلد كالسويد، وهذا مما يجعل منظمات الحقوق الإنسانية تندد بعدم تحرك المسؤولين السياسيين الأوروبيين وفق مقولتهم التي يكررونها باستمرار بشأن تمييز الاتحاد الأوروبي كمنظمة قيم، فقضية "اللجوء" ليست مطروحة في أوروبا بمنظورها الإنساني إلا عبر تلك المنظمات غير الحكومية، وبدأ يزداد طرحها بهذا المنظور في وسائل الإعلام، وإن لم يشملها جميعا.

العوامل الأخرى تظهر للعيان في ألمانيا مثلا، حيث يتناقص عدد ذوي الأصل الألماني فيها باطراد منذ ١٩٨٥، فتتبدل خارطة فئات الأعمار ويتناقص معدل القادرين على العمل مقابل ارتفاع نسبة المتقاعدين، وتزداد حاجة الشركات ‎‎إلى أصحاب الكفاءات والتخصصات العالية، وهنا لا تصدر قوانين مضادة للجوء، ‎بل تسعى السلطات منذ سنوات لتشجيع الهجرة "المنتقاة" إلى ألمانيا من أنحاء العالم، من خلال قوانين جديدة ومخصصات مالية كبيرة، لإغراء المتخصصين بغض النظر عن حاجة بلدانهم الأصلية إليهم، أما على صعيد التعامل مع اللاجئين فرارا من الموت والفقر ومن الاضطهاد والبؤس، فيعتبر الموقف الرسمي الألماني متشددا كالموقف البريطاني في ظل المعركة الانتخابية الجارية، ومخاوف رئيس الوزراء كاميرون من خسارة مزيد من الأصوات لصالح اليمين المتشدد.

وللتوضيح بمثال، توصلت المستشارة الألمانية ميركل مع رؤساء الحكومات المحلية في الولايات الألمانية إلى اتفاقية اتحادية لتوزيع أعباء "اللاجئين" وفق مفتاح يراعي عدد السكان في كل ولاية ووضعها الاقتصادي.. ولكنها رفضت لفترة طويلة  الأخذ بالمبدأ نفسه لإعادة تنظيم توزيع اللاجئين على الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وهو مطلب مطروح منذ سنوات عديدة، وطرح مجددا في القمة الأوروبية الطارئة في بروكسل.. وتعارضه دول أوروبية عديدة، بل كان من النتائج "المخزية" أيضا ألا يتمكن الزعماء الأوروبيون من مجرد الاتفاق على رفع سقف عدد من يتم استقبالهم من اللاجئين السوريين.

التناقض بين شعارات القيم وواقع السياسة يثير الرأي العام الأوروبي تدريجيا، وهو ما ترمز إليه مثلا حدة الصياغة التي تميز بها بيان منظمة العفو الدولية حول المواقف الأوروبية إزاء ارتفاع عدد الغرقى في مياه البحر الأبيض المتوسط، وتعزيز ذلك بمظاهرات أطلقتها المنظمة في أكثر من بلد أوروبي، وقد كان من الهتافات التي أطلقها المتظاهرون أمام مقر المستشارية في برلين: "يجب تأمين طرق آمنة ومشروعة للجوء الآن".. "يا ميركل أوقفي الموت الجماعي على سواحل أوروبا".

 

نتائج مخزية لقمة طارئة

كانت تلك المظاهرات عشية انعقاد القمة الأوروبية الطارئة مساء الخميس ٢٣ نيسان / أبريل ٢٠١٥ بعد أيام من موت زهاء ٩٠٠ إنسان في آخر حلقة -مبدئيا- من مسلسل كوارث قوارب الموت بين السواحل الأوروبية والسواحل العربية، وقد خرجت القمة -كما يقال- بخفي حنين، رغم ما بذله السياسيون قبلها من جهود وأطلقوا من تصريحات لتحسين سمعتهم عبر التأكيد أنهم سيهتمون بالجانب الإنساني أكثر مما مضى، ولم تسفر القمة عما يؤكد ذلك فعلا.

ليست قضية اللجوء قضية أوروبية مشتركة، أي لا تشملها صلاحيات المفوضية الأوروبية والمجلس النيابي، بل بقيت بصورة تلفت النظر وتستحق النقد من صلاحيات كل حكومة على حدة، وفي بروكسل مضت القمة الطارئة إلى "أقصى" ما تلتقي عليه كلمة ٢٨ دولة عضوا ‎في خطة من عشرة بنود، وضعها الاجتماع التحضيري لوزراء الداخلية والخارجية، ويمكن توزيع محتواها على "شطرين"، أحدهما قوي المضمون ويشمل استخدام مزيد من الوسائل الفعالة وهو ما يتعلق بالحد من "تيار اللجوء" و"مكافحة المنظمات" العاملة فيما يسمى الهجرة السرية، أما الشطر الثاني فيعتبر ضحلا إلى حد بعيد، ويتعلق بزيادة الجهود الإنسانية لإنقاذ ضحايا "قوارب الموت".

من أهم ما يراد صنعه للحد من عدد المهاجرين بقصد اللجوء بعد أن تضاعف خلال الأعوام القليلة الماضية، دعم مؤسسة "فرونتكس" الأمنية الأوروبية (سيئة الصيت) لمضاعفة قدرتها على عدم اقتراب اللاجئين من السواحل الأوروبية، لا سيما عبر الحيلولة دون مغادرة السواحل الإفريقية ابتداء، ولا يقتصر ذلك على دوريات المؤسسة جوا وبحرا، بل يشمل زيادة "التعاون" مع المغرب وتونس وفق اتفاقات سابقة، علاوة على مساعي جديدة لعقد اتفاقات مشابهة مع دول أخرى، ويعني ذلك "نقل" الأعباء الأمنية لأزمة التعامل مع اللاجئين الأفارقة والعرب إلى بلدان الجوار العربي.. ويراد إضافة إجراءات أخرى تسمح بوسائل إضافية لاستهداف منظمات تهريب البشر مباشرة، بما يشمل الاعتقال والمحاكمة وتدمير السفن، على غرار ما يجري في "الحرب على القرصنة" أمام سواحل الصومال.

أما الشطر المتعلق بزيادة الجهود الإنسانية، فاقتصر على زيادة المخصصات المالية لدوريات الإنقاذ، وهنا يكاد يكون القرار الأوروبي أقرب إلى حفظ ماء الوجه، أمام هول المآسي البشرية التي جعلت البحر الأبيض المتوسط على رأس قائمة مناطق الموت غرقا في أنحاد العالم كما ذكرت الأمم المتحدة.

لم تتخذ القمة قرارا حتى بتوسيع نطاق الدوريات البحرية لعمليات الإنقاذ، فبقيت مقتصرة على المياه المحاذية للسواحل الأوروبية، أي أن الإنقاذ لا يشمل واقعيا إلا من يواجه الموت قبيل وصوله إلى أوروبا.

أما مضاعفة المخصصات المالية فاقتصر على الوصول بها إلى تسعة ملايين يورو شهريا، وهو رقم لا يمثل شيئا يذكر بالنسبة إلى الاحتياجات الفعلية ناهيك عن "القدرة المالية" للدول الأوروبية المعنية، ويوازي ما خصصته إيطاليا بمفردها بعد مأساة مشابهة أودت بحياة ٤٠٠ إنسان في نهاية عام ٢٠١٣م إذ أطلقت إيطاليا عقب ذلك بتمويل مماثل مشروع "ماري نيستروم" لتخويل سلاح البحرية بإنقاذ القوارب المعرضة للغرق، واستطاعت خلال عام واحد إنقاذ حياة ١٧٠ ألف لاجئ، مقابل غرق حوالي ٣٣٣٠ وفق التقديرات الرسمية، وقد ألغت إيطاليا مشروعها هذا في نهاية ٢٠١٤، بحجة النفقات المالية، ومنذ ذلك الحين بلغ عدد ‎ضحايا قوارب الموت ١٧٥٠ غريقا على الأقل خلال أقل من أربعة شهور، منهم حوالي ٩٠٠ دفعة واحدة قبل أيام من انعقاد القمة الأوروبية الطارئة.

يؤكد محللون مطلعون كما تؤكد منظمات حقوق الإنسان أن السبب الحقيقي لإلغاء المشروع الإيطالي كان ضغوطا سياسية أوروبية تعبر عن "المخاوف" من تشجيع اللاجئين على الهجرة، إذا غلب على ظنهم عدم التعرض للموت غرقا!

ثبت في هذه الأثناء أن هذه المخاوف لا تستقرئ الواقع الحقيقي للمأساة، فارتفاع نسبة احتمال الموت غرقا في عام ٢٠١٥ لم يمنع من ارتفاع عدد من يحاولون الهجرة إلى "بلدان آمنة".. وواقع حالهم يقول إنهم يفرون من موت محقق، إلى موت محتمل..  يفرون -إلى أي بقعة من الأرض- من براميل متفجرة، وغازات الكلور، والجوع والمرض حصارا، ويفرون من ‎الموت تعذيبا في المعتقلات، ومن القتل في الشوارع لمنع التظاهر ضد الانقلابيين، كما يفرون من الموت نتيجة الصقيع في مخيمات التشريد.

هذه الأسباب بالذات من وراء رحلات الموت الجماعي في مياه المتوسط، تستدعي التنويه بضرورة الإدانة الأكبر للمسؤولين أصلا عن ظاهرة التشريد عن الأوطان.. وتستدعي العمل على استئصال أسبابها من الجذور، جنبا إلى جنب -على الأقل- مع إدانة من لا يتعاملون مع مآسي الهجرة الجماعية باتجاه المنافي في أراضيهم، تعاملا يلتزم موازين القيم والأخلاق والشعور بالمسؤولية.

نبيل شبيب