أصبحنا في سورية وجها لوجه مع ما يمثل على أرض الواقع تحالفا عدوانيا، عالميا وإقليميا، يجمع قذائف الغزو الروسي جوا وبحرا، وميليشيات إيران المتعددة فجورا، وداعش من وراء الصفوف في كل جبهة ملتهبة إثما وغدرا، بينما يواصل “الأصدقاء” مسلسل المناورات الكلامية من جهة وعرقلة ما يمكن أن يساهم في تحصين الثورة الشعبية المتواصلة في سورية تخصيصا، أو أن يساهم في تجديد الثورات الشعبية واستعادة عافية مساراتها في بلدان أخرى.. ويتزامن جميع ذلك مع تصعيد حملات تدنيس مقدساتنا في فلسطين واعتقال من يرابط فيها وقنص من يدافع عنها من أهلنا.
لقد وصلنا في سورية -وهي عقدة التغيير التاريخي الجاري- إلى مرحلة حاسمة بالغة الأهمية، قد يمثل الغزو الجوي الروسي فيها آخر سهم “خطير” في جعبة العداء -ولا يعني ذلك توقف مسلسل العداء- مقابل فرصة التلاقي الثوري ميدانيا وسياسيا وتعاونا مدروسا وهو ما يمثل آخر المنعطفات في اتجاه نصر مؤكد بإذن الله، فنتائج هذه المرحلة في الفترة المقبلة حاسمة في مسار التغيير الجاري في بلادنا، ولهذا لا بد من بذل أضعاف ما يبذل، مع مضاعفة سرعة الخطى وحجم الإنجازات، في مواقع عديدة تتلاقى بجذورها وبمصيرنا فيها على نسيج قضية كبرى مشتركة، أبرز مواقعها فلسطين وسورية.
العقبات الذاتية هي الأهم مهما بلغ شأن العقبات الخارجية في طريق نهوضنا وتحقيق أهداف جيل الثورة والتغيير في بلادنا، وهي عقبات كبيرة وثقيلة، وقد تعلمنا الكثير في مسارات سنوات مضت على انطلاقة ثورات الربيع العربي، وتعلمنا الكثير من خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية من قبل، ولكن لا يزال كثير منا أسرى ما ورثناه من عصر ما قبل الانتفاضات وثورات التغيير.
إن كل مواجهة للعقبات الكبرى الخارجية تفرض أن نكسر القيود والأغلال التي تمنع تحركنا معا وإنجازنا معا، وتعيق تحركنا بالسرعة المفروضة علينا في هذه المرحلة.
. . .
تحطيم القيود والأغلال الذاتية هو المهمة الأعظم، والطريق إلى ذلك يتطلب جهودا تفصيلية مباشرة، وبطبيعة الحال لا يتجاوز أي “مقال منشور” بصددها حدود التنويه لها فحسب.
مثال مما نعايشه هذه الأيام مع كتابة هذه السطور يتواصل الروس والإسرائيليون على أعلى مستوياتهم السياسية والعسكرية ثم يبدأ مسلسل إجرام الغزو الجوي الروسي لسورية، ويبدأ التصعيد التهويدي الإسرائيلي في فلسطين، وتنطلق المقاومة في البلدين ضد الغزو الإجرامي العدواني وضد التهويد الاستيطاني الاستعماري، ولا نرى في واقع عملنا في مختلف المستويات ما يعبر حقا عن استيعابنا ويقيننا بأن القضية قضية واحدة، ولا نتعامل مع بعضنا بعضا على هذا الأساس، بل يعلن الطرفان العدوان عن “التنسيق” بينهما، ومع سواهما، ونحن إذا لامسنا ذلك التلاقي “العلني المكشوف” بكلمة عابرة، وجدنا من داخل صفوفنا تحذير بعضنا بعضا من “فكر المؤامرة”.. فهل ينبغي أن يقسم الأعداء الأقسام المغلظة لندرك أن القضية واحدة، وأن العدو مشترك متعدد الأسماء؟
. . .
مثال آخر مما نعايشه هذه الأيام أيضا: يؤكد بعضنا أهمية طرح مواقف مشتركة حاسمة من جانبنا تجاه من يتعامل معنا من القوى الدولية، وإظهار عزيمة قاطعة بأن أهدافنا المشروعة بجميع المعايير هي خطوطنا الحمراء، فلا يمكن المساس بها في مساومات علنية وخفية من وراء قنوات “الدعم” كما يسمونها، ويقابل ذلك من يتحدث عن تليين تلك “الخطوط الحمراء” إلى درجة ضياع معالمها جميعا، بحجة أن القضية قضية مصالح، و”أخذ وعطاء”، وكأنما يوجد فارق حقيقي لدى الضحية المستهدفة بالعداء إن كان الدافع إليه تلاقي المصالح أو تنسيق المصالح أو تناقض المصالح؟
ثم هل خلا تاريخنا القريب من توظيف ثروات بلادنا بل وفتح مياهها وأراضيها وأجوائها لقواعد أجنبية بحجة “لغة المصالح” دون أن يؤدي ذلك إلى مجرد التخفيف من درجة تغوّل العداء في قضية فلسطين المحورية، بل كوفئت البلدان المعنية بذلك أكثر من سواها بالاتفاق النووي في نهاية المطاف، مع ما يعنيه من تغول مشروع الهيمنة الإقليمي الثاني في المنطقة؟
. . .
يوجد ما لا يحصى من الأمثلة، على ما نواجهه من “واجبات عملية” تنتظر النهوض بها.. معا، ويوجد بالمقابل ما لا يحصى من الأمثلة على أننا في هذه الأثناء غرقى حتى ما فوق آذاننا في “مناقشات لا نهاية لها” حول أمور جانبية لا نهاية لها، وبأساليب “حوار سفسطائي” لا نهاية لها، دون استشعار المسؤولية التي توجب أن تسبق أعمالنا أقوالنا، كأننا في سورية وفلسطين وأخواتهما نأبى الانتقال من “مناقشات بيننا” حول “كيف نفكر فرادى” إلى “ماذا نعمل معا”.
. . .
يقول بعض أهلنا أيضا إننا في معظم بلادنا وقضايانا نواجه عداء قوى عاتية متقدمة ونحن متخلفون على أكثر من صعيد ومقيدون في أكثر من ميدان ولا يمكن أن ننجز إلا القليل في حدود إمكاناتنا، فلا ينبغي أن “نحرق المراحل” حرقا، ولا أن نسعى إلى أهداف أكبر من حجمنا.. فكأننا في نزهة وعلينا أن نمشي الهوينى في تطوير علاقاتنا مع بعضنا ليتحقق شيء من التطوير لعملنا.
وكم عايشنا شبيه ذلك فيما كنا نردده ونخدّر أنفسنا به إلى حد بعيد خلال العقود الماضية، فسبقتنا ثورات من “لم يقدّروا” -فيما نحسب- أنهم يقومون بثورة على واقع عالمي لا يتبدل ولا يتزحزح إلا بالثورة عليه.. ولو فكروا بأسلوبنا لترددوا ولم “يرتكبوا إثم التمرد” على أغلال التخلف وقيود الضعف.
لم يسبق في تاريخ البشرية أن قام بناء “استقلال.. أو تحرر.. أو حضارة.. أو تفوق” إلا عن طريق من انطلقوا من مواقع الضعف وواجهوا العداء من جانب من سبقهم من قبلهم استقلالا وتحررا وحضارة وتفوقا.. وإن ما نقوله عن ضخامة العداء وإمكاناته مقابل ضعف إمكاناتنا وعن الهوة الشاسعة بين “مواقعهم” و”حاضرنا”، هو بالذات ما يفرض أن نقفز قفزا في العطاء.. مع التثبت من مواقع أقدامنا، لا أن نمشي بهدوء وتؤدة، فلن نتجاوز سرعتهم إلا بتسارع إنجازاتنا، وإلا فلن نصل في جيلنا هذا ولا حتى في الأجيال القادمة إلى مواقع “قريبة” من مواقعهم، ولن يتوقفوا من تلقاء أنفسهم بانتظار أن نتحرك ونلحق بهم.. ناهيك عن أن نتجاوز ما يصنعون على حساب قضايانا.. أو قضيتنا الكبرى المشتركة، الجامعة لقضايانا المصيرية المتعددة.
. . .
نحن -يا أهلنا- بين خيارين -شئنا أم أبينا- إما “الموات الدائم” أو “الثورة الحقة السباقة المتسارعة” دون أن نغفل عن توحيد خطانا وتكاملها، وعن سداد العمل وتوازنه.. ونحن -يا أهلنا- آثمون جميعا إن لم يتحرك القادرون من بيننا “الآن” على هذا الطريق.
نبيل شبيب