تحليل – حكايات الإسلام السياسي مجددا

من مضمون مقال سابق (الإسلام السياسي):

تعبير "الإسلام السياسي" لا نجده في النصوص القرآنية ولا الأحاديث النبوية ولا أمّهات الكتب الإسلامية، كما أنّ الحركات والجماعات الإسلامية التي ظهرت في القرن الميلادي العشرين لم تستخدم هذا التعبير إلا بعد عشرات السنين، كردة فعل على استخدامه من جانب خصومها، فمن أين ظهر؟ وما المقصود به؟ وما جدوى الحملات ضد الإسلام والتمويه على ذلك باستخدام هذا العنوان؟
ليس هذا التعبير مصطلحا، ولا يطرح مستخدموه معالم منهجية محدّدة لتبيّن المقصود منه، بحيث يفهم القارئ والسامع ما يريده الكاتب والمتحدث.. ورغم ذلك يستخدمه باحثون و‎إعلاميون، كلّ حسب وجهة نظره الذاتية فحسب.

 

إنّ الحملة التي بدأت في الغرب أولا تحت عنوان مكافحة "الأصولية الإسلامية" ووصلت لاحقا إلى "مكافحة الإرهاب الإسلامي"، هي التي انتقلت إلى ألسنة فريق من العلمانيين "الأصوليين" من قبل، فأصبحوا لا يريدون استيعاب علمانيتهم وممارستها إلا من خلال مواقف عدائية للآخر، وعندما نرصد الآن ما يجري من تحرك محلي وإقليمي ودولي مضاد لمسار الثورات الشعبية التاريخي، لا بد أن نتساءل عن خلفيات تجدد حملات هذا الفريق أيضا على ما يسمونه "الإسلام السياسي" واضعين أنفسهم في صف من يستخدمون الدبابات والمعتقلات والمليارات في استهدافهم للشعوب مع التركيز على ما احتضنته الشعوب الثائرة من إسلام رباني منزل.. ومن حركات تحمل اسمه فتصيب وتخطئ.

 

أشهر من بدأ قديما الحملة المباشرة على ما يسمونه "الإسلام السياسي" هو صانع "كارثة كامب ديفيد" الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات، وهو يقول بلهجة الحاكم المستبد الآمر الناهي: لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة.. وإذا نظرنا في جميع ما جرى منذ ذلك الحين حتى اليوم، من جولات انتخابية على المستوى السياسي العام والمستويات الأدنى، كالطلبة والنقابات، لوجدنا:

(١) انتخابات لا يشك أحد في تزييفها وتزويرها رسّخت الاستبداد والفساد تحت عناوين غير دينية، بغض النظر إن كان المستبدون يمثلون صيغة ما من العلمانية الحقيقية أم لا، وكانت النتائج مدعاة للسخرية، ترمز إليها التسعات قبل الفاصلة وبعدها.. ناهيك عن تراكم التخلف ومختلف أنواع النكبات.

(٢) انتخابات شهد القاصي والداني على نزاهتها، أو نزاهة معظمها، وأسفرت دوما عن ترسيخ حقيقة أن الإرادة الشعبية تختار ما يسمونه "الإسلام السياسي"، بغض النظر عن أوضاع من ينسبونهم لهذا العنوان من جماعات وأحزاب، وما حالفها من صواب في العمل أو وقعت فيه من أخطاء.

 

نحن إذن أمام مشكلة مزدوجة، فوضى المصطلحات وتزوير الحقائق، والحصيلة هي افتعال "معركة" مزعومة ضد "الإسلاميين"، وهي في واقعها ضدّ "الإرادة الشعبية"، يخوضها من يزعمون لأنفسهم "تمثيل الشعب"، فإن اختار الشعب بنفسه سواهم لأنه لا يثق بهم ولا بما يطرحون‎، جعلوا أنفسهم بغير حق أوصياء عليه وعلى إرادته، فانقلبوا بكل الوسائل غير المشروعة بما فيها القوة العسكرية والقوة القمعية التي يسمّونها "أمنية".

ما يسمونه "إسلام سياسي" بدعة، يستخدمها مبتكروها فيخبطون خبط عشواء، أو ينفذون مخططا‎ خبيثا بدأ بابتداع الكلمة،‎ ثم مضوا لشيطنة خصومهم عبر حملات شياطين السياسة والقلم، ثم وصلوا إلى مرحلة توظيف التعبير في تسويغ ضربات إجرامية ضد الإرادة الشعبية.

الإسلام وضع للسياسة مثلما وضع للاقتصاد ولميادين أخرى في العلاقات البشرية، منظومة من القيم والمبادئ والمثل والقواعد الكبرى، والقليل من التفاصيل، وأطلق العنان للاجتهاد في نطاقها، فهي من "أمور دنياكم"، وكل من يجتهد معرض للخطأ والصواب، مثله – إن كان إسلاميا – مثل من يستمدون أطروحاتهم من تصورات ومناهج صاغها البشر دون وحي رباني، واجتهدوا فأخطؤوا وأصابوا، أيضا..‎ ولا نقارن هنا بين "حجم الخطأ وفداحته"، ولو قارنّا فما عرفت بلادنا من هم أشدّ فحشا وإجراما بحق الشعوب، من مسلسل مستبدّين فاسدين لم يزعموا أصلا ارتباطهم بالإسلام منهجا وسياسة!

إنّ المقارنة في أي انتخابات أو استفتاءات.. أو أي شكل من أشكال التعرف على إرادة الشعب، هي المقارنة بين اجتهادات واجتهادات، فما الذي يمكن القبول به كمرجعية لسريان مفعول هذا أو ذاك، إن لم تكن إرادة الشعب الذي يريد أن تعمل السلطة وفق أحد تلك الاجتهادات؟

 

المشكلة الحقيقية أننا لا نواجه في حكايات "شيطنة الإسلام السياسي“ المبتدعة جولة بين منطق ومنطق، وحجة وحجة، ودراسة ودراسة، والتزام والتزام.. بل نحن أمام هجمة فريق علماني أصولي محدود العدد (ويوجد سواه من العلمانيين غير الأصولين) خسر تأييد الشعب مرة بعد مرة، في الميادين السياسية وغير السياسية، فهو يستخدم أساليب الإكراه بالقوة، لأنه لا ينطلق من مبدأ كالمبدأ الرباني (لا إكراه في الدين)، بل يمارس أساليب الكذب والافتراء عبر إعلام منحرف، والعدوان والاعتقالات العشوائية عبر أجهزة "ترويع" مدربة، ومصادرة الحقوق والحريات عبر أحكام قضاء معظمه من صنع الاستبداد شكلا ومضمونا.

هؤلاء يستحيل أن يصلوا إلى السلطة إلا على ظهور الدبابات، ولا أن يبقوا فيها إلا بحماية الرشاشات والتضليل والمعتقلات.

 

يعلم كاتب هذه السطور أن قارئها يفكر على الفور بما يجري في مصر حاليا ومن احتضن انقلابا عسكريا فيها ضد "ثورتها الشعبية" -وليس ضد من أخطأ أو لم يخطئ بعد انتخابه- ولكن ليست حالة مصر سوى حلقة، أو حالة من الحالات التي عايشناها ونعايشها منذ عشرات السنين، في مصر وغير مصر، وليست حكايات الإسلام السياسي المبتدعة فيها إلا ورقة توت لا تستر عورة من يعتدون على إرادة الشعوب جهارا نهارا، فلا يصلح شيء لستر عوراتهم.

 

لقد بلغ السيل الزبى عبر ما صنعه هؤلاء من قبل في معركتهم الشيطانية ضد الشعوب.. فثارت، وبدأنا نتحدث عن الربيع العربي، وظهر فيه ميل الشعوب بإرادتها إلى الإسلام، فتجددت حملتهم ضد إرادة الشعوب وازدادت شراسة وضراوة، وتحالفوا في ذلك ضمنيا أو واقعيا – وفي بعض التفاصيل تحالفا مباشرا – مع إرهابيين همجيين ينتحلون عنوان "الإسلام" مثلما انتحل الشيوعيون والنازيون والفاشيون عناوين "ديمقراطية.. وشعبية.. وقومية".. وقد أجرموا، فكانت الإدانة للإجرام والمجرمين، وليس للديمقراطية والشعوب والقوميات.. فبأي منطق يتحامل الآن على الإسلام، فريق من العلمانيين الأصوليين – شذ عن جوهر العلمانية نفسها – وهو من داخل السلطات الاستبدادية وخارجها، ويتخذ ذريعة "رايات" فريق منحرف مقابل، شذ عن الانتماء للإنسانية نفسها وليس عن الإسلام فقط؟..

 

ليست الثورات الشعبية ضد بضعة أفراد من رؤوس أخطبوط الاستبداد والفساد، بل هي على مراكز قوى، محلية وأخرى تدعمها على مستوى دولي، يتلاقى كثير منها على "إكراه البشر" بالقوة والحيلة معا.

وهنا مشكلتهم الجوهرية مع ما يحاربونه بحملاتهم العدوانية.. فهم يعلمون أن "السياسة" ومناهجها وتطبيقاتها لا تكون "أسلامية" إلا إذا تأهل لها من يطبق مبادئ ثابتة لا يريدون هم الاحتكام لإرادة الشعب بشأنها.. وفي مقدمتها:

‎"لا إكراه في الدين"..‎

"الكرامة لجميع بني آدم"..

"العدل بين الناس كافة"..

المساواة بين الناس كأنهم أسنان المشط"..

والقائمة طويلة، وجميعنا يعلم أن هذه المبادئ أو الضوابط واردة بمضامينها وإن اختلفت الصياغة، في دعوات الأديان الربانية وفي النصوص النظرية للمواثيق الدولية أيضا.

 

من أراد لإرادة الشعوب الثائرة أن تنتصر حقا على الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية فلا ينبغي له القبول بأولئك الذين يختزلون المشكلة الحقيقية في بلادنا حاليا، ويحشرونها وراء قضبان جولات صراع بين "إسلام وعلمانية"، فالخيار الحقيقي المطروح على الإرادة الشعبية هو بين:

(١) منظومة مبادئ يمكن أن تكون أرضية مشتركة لتخيير الشعب نفسه ‎بين "الصادقين" في مبادئهم من إسلاميين و‎علمانيين..

(٢) ومنظومة مظالم الاستبداد والفساد المحليين والدوليين..

والسؤال المطروح هو:

أين يضع أولئك "الأصوليون والوصوليون" أنفسهم من هذا الخيار، بدلا من زوبعة حملاتهم ضد ما يسمونه الإسلام السياسي؟

الشعوب لا تنتحر.. ولهذا يستحيل أن تختار منظومة تفضي إلى الاستبداد مجددا أيا كان عنوانه، ولن تتوقف عن مسيرتها عبر الثورة والتغيير حتى تتحرر إرادتها، ويعلم أعداء الشعوب ذلك علم اليقين، ولهذا لا يتخلّون عن الدبابة والرشاش.. ولن ينتهي أمرهم في واقعنا الذي نعيشه، إلا بانتصار إرادة الشعوب وأهدافها، وستنتصر، وسينتهي أمرهم، فقد طفح الكيل بالشعوب، ولن تعود القهقرى بعد مسيرة التضحيات والإنجازات والمعاناة التي قطعتها منذ يوم بوعزيزي.. إلى يومنا هذا.

والله غالب على أمره.

نبيل شبيب