تحليل – تركيا.. والغزو الجوي الروسي

لأن غالب السوريين يقدرون ما قدمته تركيا حتى الآن لصالح الثورة، دون تمييز بين فريق وفريق على الأصعدة السياسية والعسكرية ناهيك عن التعامل الإنساني مع المعاناة المأساوية للمشردين.. ولأن غالب السوريين يحملون قدرا كبيرا من الثقة والأمل تجاه تركيا بالمقارنة مع سائر الدول الأخرى، كان في مقدمة التساؤلات المطروحة فور شروع موسكو في تنفيذ غزوها الجوي العدواني، السؤال عما ستصنع تركيا تجاه ذلك.

. . .

لن تتحرك تركيا عسكريا كرد فعل على الغزو الجوي الروسي ما لم تتعرض لعدوان مباشر، وحتى في هذه الحالة سيكون أي تحرك محدودا كيفية وحجما بما يوازي ذلك العدوان ولا يوسع نطاق الصدام. والأسباب عديدة ومعروفة، أهمها أن تركيا -حسب موازين القوى العسكرية- لا تغامر بتصرف يضعها في مواجهة مع روسيا وإيران، دون ضمان موقف أطلسي قاطع، وليس هذا الموقف متوقعا، فصحيح أن الحلف حريص على تركيا بسبب موقعها وقدراتها، إنما أصبحت في منزلة "العضو المتعِب"، بل اتخذ مجرى التعامل الغربي عموما والأمريكي تخصيصا مع تطورات قضية سورية منحى أقرب إلى الرغبة في "توريط" تركيا بتحرك عسكري دون غطاء أطلسي، وهو ما لم تنزلق إليه حتى الآن، كما أنها لم تستجب للمطالب الغربية بشأن الامتناع عن استهداف "حزب العمال الكردستاني" والنسخة السورية عنه، المرتبطة ببقايا النظام الأسدي، والمدعومة أمريكيا، هذا علاوة على عدم الاستجابة إلى المطالب الغربية إلا جزئيا على صعيد الضربات "المحدودة" من جانب التحالف ضد داعش، والمقيدة باستثناء أي عمل عسكري يساهم في إسقاط بقايا النظام الأسدي.

لا يعني هذا استبعاد أي احتمال لتحرك عسكري تركي، وقد ترك رئيس الوزراء التركي أوغلو البابا مفتوحا بهذا الصدد بقوله يوم ٨/ ١٠/ ٢٠١٥م "في حال استمرار هذه الانتهاكات القانونية (يعني الروسية) لا ندري إلى أين يمكن أن تصل الأمور في المرحلة القادمة".

. . .

على جميع الأحوال لا يمكن استشراف ما يمكن أن تصنعه تركيا في الأيام والأسابيع المقبلة بصورة تسمح بترجيح إجراء على آخر، فلا يوجد جواب "مبسط وقاطع" بشأن التعامل مع الغزو الجوي الروسي، وأي تحرك محتمل مرتبط بعوامل عديدة، منها بمنزلة "محددات سياسية أساسية" قائمة من قبل، ومنها ما يعتبر "طارئا وآنيا" بمنظور توقيت هذا الغزو. من هذه المحددات:

١- وضع السلطة في تركيا معقد، داخليا وخارجيا، يلخصه مشهد حزب ذي اتجاه إسلامي في دولة ما زالت العلمانية هي المرجعية فيها، ورسمت في سياساتها أخاديد عميقة على امتداد تسعة عقود، وهذه العلمانية هي محور بنية العلاقات التركية الخارجية، وكثير من جوانب الحياة والعلاقات الداخلية.. وقد يتبين ما يعنيه ذلك كمثال، أن تعلن اللجنة العليا للانتخابات منع حزب العدالة والتنمية من استخدام نشيده الرسمي في الدعاية الانتخابية، لأن فيه كلمتين معناهما "نهتدي بالله".

٢- ليست العلاقات التركية الخارجية عدائية مع روسيا وإيران، بل تجمع بين نقيضين، ما صنعته المصالح المتبادلة وهي ذات ثقل كبير، وما سببت وتسببه السياسات والممارسات الحالية في قضية سورية، ولعل الغزو الجوي الروسي قد وصل بذلك إلى "حافة الهاوية"، أي بات ينذر بأن تتأثر العلاقات المصلحية أيضا، وهو ما يوحي به قول أوغلو "نحن لم نرغب في يوم من الأيام أن نكون طرفا في صراع أو حرب ما، ولكن عندما نواجه أمرا يتعلق بنا بشكل مباشر فإن أخذ التدابير اللازمة يعد من أهم السمات التي نتسم بها".

٣- جميع الاحتمالات مرتبطة أيضا بواقع العلاقات الخارجية مع الدول الغربية، وهي مصلحية أيضا، ولكنها لم تعد خالية من التوتر على مستوى حلف شمال الأطلسي وعلى مستوى العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك على صعيد العلاقات التركية-الأمريكية، منذ رفض عبور القوات الأمريكية أراضي تركيا لاحتلال العراق، وحتى الخلافات في التعامل مع قضية سورية، في ميادين "التسلح.. والتدريب.. والمنطقة الآمنة" وغيرها.

٤- عقد كثير من المتفائلين أملا على "محور ثلاثي إقليمي" يضم تركيا والسعودية وقطر، ولم يجد هذا التفاؤل حتى الآن ما يسوغه على أرض الواقع، ولعل أقصى ما يمكن أن يصل إليه، منحصر في ميدان التسليح كما ونوعية مما قد يصل إلى الثوار.

. . .

علاوة على هذه المحددات السياسية الأساسية جاء توقيت الغزو الروسي متزامنا مع عدد من التطورات ذات العلاقة فيما تواجهه تركيا حاليا، وما يمكن أن تصنعه للتعامل مع الغزو الجوي الروسي، من ذلك:

١- تجدد الاهتمام الأوروبي بالتفاهم مع تركيا بسبب ارتفاع أعداد المشردين السوريين باتجاه الدول الأوروبية عبر تركيا، وقد يساهم هذا في "تليين" مواقف سياسية أوروبية سلبية في قضية سورية، إنما لا يصل إلى مستوى "تنسيق" ناهيك عن تعاون إذا مضت التطورات في اتجاه "صدام" عسكري محدود أو واسع النطاق، وحتى التحذير الفرنسي من "حرب عالمية ثالثة"، يمكن أن يكون موجها لتركيا أكثر من أن يكون موجها لروسيا.

٢- تخفيف حدة الاختلاف التركي-الأمريكي بصدد حرب تركيا على "حزب العمال الكردستاني وقرينه في سورية" وحجم المشاركة التركية في الحرب ضد داعش، ولكن الإطار العام للاختلاف لا يزال قائما، ولم يظهر من واشنطون -رغم بعض التوجهات الأوروبية- ما يشير مثلا إلى الاستعداد للمشاركة في إنشاء منطقة آمنة، تحتاج إن تقررت لحماية جوية. ومع انطلاقة الغزو الجوي الروسي، تضمحل مؤشرات سابقة كانت ترجح احتمال اتخاذ تركيا خطوات انفرادية عمليا، من أجل إيجاد معطيات على الأرض وجوا، مما يحمل مواصفات "منطقة آمنة" دون إطلاق هذا الوصف رسميا عليها.

٣- كما جاء الغزو الجوي الروسي بعد فترة وجيزة من قرار مفاجئ لدول حلف شمال الأطلسي المعنية، بسحب منظومة صواريخ "باتريوت" من الحدود التركية-السورية، رغم أن "السبب الرسمي" لنصبها لا يزال قائما، وربما بات أشد إلحاحا مع تعدد انتهاكات الطائرات الروسية مؤخرا، ولكن رغم ذلك لم يصدر عن الحلف ما يتجاوز حدود "الإعلان عن الالتزام بالدفاع عن تركيا الدولة العضو فيه" أي ذكر ما هو مكتوب في ميثاق الحلف أصلا، إنما لا توجد -حتى ساعة كتابة هذه السطور- إجراءات أو قرارات رسمية معلنة حول أي تحرك عملي.

. . .

كما ورد في البداية.. التساؤل عن "تصرف تركي" يعود إلى حجم الثقة من جانب السوريين بتركيا، وهذا ما يستدعي التفصيل في الأسباب الموضوعية التي تستدعي أن يكون استشراف احتمال التحرك التركي استشرافا منهجيا وواقعيا، بينما لا نحتاج إلى مثل ذلك التفصيل عند الحديث عن تعليق آمال بعضنا بتصريحات ومواقف وسياسات تصدر باسم أطراف غربيين أو ما يوصف بأصدقاء الشعب السوري..

وسواء فيما يتعلق بتركيا.. أو سواها، سنعود دوما إلى ما ينبغي تثبيته والتصرف بموجبه، من جانب السوريين، أنفسهم في مواجهاتهم الميدانية ومواقفهم السياسية، وحتى في نطاق "مشاعرهم وآمالهم":

ستنتصر الثورة اعتمادا على القوة الذاتية أولا، وهي ما يمكن أن يفرض نفسه على أرض الواقع، ويدفع دفعا إلى تعديل السياسات والممارسات "الخارجية" لصالح الثورة والشعب والوطن، وجميع ذلك بشروط نعرفها ونحمل المسؤولية عن تحقيقها:

وحدة الصفوف على درب الثورة وأهدافها، تجاوز الخلافات وتحريم الاقتتال، العمل السياسي المؤسساتي المدروس، حسن توظيف الإمكانات الذاتية والمكتسبة، الحرص على علاقات خارجية متوازنة، اعتبار العلاقة مع من يعاني من شعب سورية، في المعتقل الكبير وفي منافي التشريد، وتأمين احتياجاتهم، وتخفيف المعاناة إلى أقصى درجة ممكنة، جزءا من المسؤولية الفردية الكبرى بين يدي الله تعالى.

نبيل شبيب