تحليل – العمل الواجب بين الارتجال والإعداد المسبق

نعاني منذ حقبة طويلة على المستويين الفردي والجماعي من العمل الارتجالي دون (١) رؤية بعيدة المدى و(٢) تخطيط مدروس، وكلاهما لا يولد دون تأهيل ذاتي ومكتسب، بما يراعي أهمية الإعداد المسبق لكل عمل هادف وضرورته لتحقيق النجاح. يسري هذا على كثير من حالات طلب الإنجاز في الحياة المعيشية، كما يسري على تفاعلنا مع أحداث كبرى، قد نساهم في صناعتها ارتجاليا فلا يتحقق النجاح المرجو، أو يصنعها سوانا فلا نجد في أنفسنا ما يكفي من الأهلية والقدرة للتفاعل الهادف معها، فتتكرر ردود الفعل الارتجالية.

يحمل العمل الأهلي / المدني مسؤولية خاصة على هذا الصعيد، إذ تشمل أنشطته تأهيل الفرد وتوجيه العمل الجماعي في وقت واحد، سواء في حالة الاستقرار المجتمعي ليساهم في حركة نهوض جارية، أو في مراحل انتقالية متطاولة غالبا، ليقدم دفعة حقيقة للنقلة المرجوة من وضع انتشر تعبير "القحط" أو "التخلف" في وصفه، إلى وضع التغيير والنهوض المستهدفين. في الحالتين، حالة الاستقرار والحالة الانتقالية إذا كانت بوصلة توجيه الأنشطة الأهلية / المدنية وممارستها تتضمن الإعداد التأهيلي المسبق، يمكن أن يساهم ذلك إسهاما كبيرا في الخروج من دوامة هدر الإمكانات المتوافرة، وهي دوامة يصنعها أو يضاعف مفعولها نقص التأهيل اللازم لتوظيف الإمكانات القليلة بمردود جيد من جهة، وتنميتها المستدامة من جهة أخرى.

 

قسط الفرد من المسؤولية

يغيب عن أذهاننا في كثير من الأحيان أن قوالب التوجيه وآليات التأهيل وأنشطة العمل، عبارة عن وسائل وأدوات مهما كانت حديثة معاصرة وجيدة، ويمكن أن تفقد مفعولها لسببين معا أو لأحدهما، ويكمن السبب الأول لدى الجهات المسؤولة عن استخدامها وإدارتها، فتحمل آنذاك شطرا من المسؤولية في حالة الإخفاق، إنما لا تحمل مسؤولية مباشرة عن السبب الثاني الذي يكمن لدى الفرد، ومدى استفادته من فرصة تأهيله عبر تلك الوسائل والأدوات، وهنا تعود ظاهرة الارتجالية بدلا من الارتقاء الفردي إلى عوامل عديدة، من بينها غالبا:

١- استعجال تحقيق مكسب ما، مادي أو معنوي، فيسقط أحدنا ضحية الإغراء بتوظيف ما حصل عليه من تأهيل لإنجاز عمل كبير ما، دون تقدير حقيقة ما يتطلبه ذلك العمل، فيتوهم قابلية النجاح عبر الاكتفاء بحصيلة دورة تأهيلية أو أكثر في مجال واحد من المجالات التي يشملها العمل.

٢- الخلط بين الهدف المحدود من دورات التأهيل وما يحتاج إليه عمله الميداني من عناصر عديدة ومتنوعة، يمثل هذا التأهيل واحدا منها، فقد يحصل على كفاءة إدارية عالية، ولا تتوافر له إمكانات مادية، أو القدرة على العمل الجماعي، أو التكامل مع متخصصين آخرين في مجالات إضافية كالتخطيط الاحترافي والمتابعة المتجددة للتطورات ذات العلاقة بعمله.

٣- التسرع في العمل لسدّ ثغرة مهمة من الثغرات.. وما أكثرها، لا سيما في ميادين العمل التطوعي، أو العمل التغييري، ولكن دون وجود علاقة فعلية بين متطلبات سدّ تلك الثغرة وبين ما تأهل الفرد شخصيا من أجل أدائه، وقد يعزو إخفاقه آنذاك إلى قصور المسؤولين عن تأهيله، بدلا من أن يراجع نفسه ويركّز على ما أصبح يتقنه ليحقق إنجازا مرئيا على صعيده.

علاوة على عوامل نوعية مشابهة لا يتسع المجال لسردها، توجد أيضا عوامل أساسية عديدة، تبدوا وكأنه لا علاقة مباشرة لها بالموضوع المطروح ولكن لا ينبغي إغفالها هنا وعلى مختلف الأصعدة، فقد يصبح أحدنا مؤهلا بكفاءات عالية، ولكن يفتقد مواصفات خلقية وقيمية معينة لا غنى عنها، بدءا بصدقه وعزيمته وصبره انتهاء بالاستقامة في معاملاته مع الآخرين.

 

قسط جماعي من المسؤولية

القصد بكلمة "جماعي" هنا هو ما يتلاقى على بذله من العمل التأهيلي مسؤولون إداريون ومحترفون في قطاعات عديدة، منها رسمي في حالة الاستقرار ومنها ما يعرف بقطاع العمل الأهلي / المدني، في حالتي الاستقرار وأثناء المراحل الانتقالية من أوضاع عشوائية متعددة الأشكال، إلى أوضاع مستقرة لا تتحقق دون انسجام مجتمعي في دولة قويمة أو حتى في كيانات عابرة للحدود.

هنا تتركز المسؤولية الجماعية عن مواجهة ظاهرة العمل الارتجالي لصالح التخطيط المدروس البعيد المدى مع التطوير المتجدد المستدام، وهي مسؤولية مرتبطة بنوعية تطلعات المسؤولين لتحقيق النجاح عبر أنشطة يديرونها، ثم بقدرتهم الفعلية لصياغة مخططات العمل بخطوطه الكبرى وحتى تفاصيل ما تتطلبه دورات التأهيل المعنية من مضامين موضوعية، وكفاءات عالية، وإدارة حكيمة.

لا يستطيع أحد من خارج نطاق العمل الأهلي / المدني أن يضع "وصفات" مناسبة بالضرورة، فالمتخصصون العاملون فيه أقدر على التشخيص واختيار العلاج الناجع عند ظهور ثغرة من الثغرات، إنما يمكن التنويه ببعض الملاحظات التي يرجى أن تساعد من يتابعون العمل من داخله في الدرجة الأولي، ومنها:

١- إن الواجبات كبيرة ومتنوعة وواسعة النطاق، وقد يسقط بعضها ضحية استحالة الجمع دوما بين تطلعات كبرى وإمكانات فعلية محدودة، إذ يضطرب سلم الأوليات ما بين الأهم وإن لم يكن "عاجلا" والمهم إذا ما بدا "ضروريا وعاجلا".

٢- يحرص كثير من المسؤولين الاحترافيين على "استمرارية العمل" بطبيعة الحال، ولكن لا يسهل على أحدهم أن يمارس دوما صلاحياته التوجيهية والإدارية بفعالية كافية لمعالجة النواقص أو التقصير من حوله، لا سيما وأن معظم الأنشطة والجهود يعتمد على عطاء تطوعي، ولكن قد يصبح "غضّ الطرف" مدخلا خطيرا في بعض الحالات على حساب العمل نفسه رغم الحرص عليه.

٣- المشكلات التي توضع في الحسبان مسبقا نتيجة بعد النظر أو كحصيلة تجارب وخبرات سابقة، لا تسبب معضلة قدر ما يحدث ذلك بسبب مشكلات طارئة أثناء العمل، وهنا يصبح ارتجال الحلول أو ارتجال عمليات التصويب والتصحيح مصدر خطر على مجموع العمل، ولا يمكن تجاوز ذلك دون توافر كفاءة من قبيل القدرة على إدارة الأزمات، وقليلا ما يتوافر ذلك مقابل القدرة على ممارسة الإدارة "التقليدية" التي تصلح للعمل "الروتيني" الانسيابي دون مشكلات طارئة.

٤- الافتقار إلى ممارسة "التشبيك" الذي انتشر في عالمنا المعاصر انتشارا واسعا افتقار خطير الأثر، ليس على العمل الإنتاجي في ميادين مادية وفكرية فحسب، بل يكاد يكون مفتقدا أيضا على المستوى الإداري بين الأجهزة والهيئات والتجمعات الناشئة في مرحلة انتقالية بين العشوائية والاستقرار، فمعظمها غارق في كثرة الواجبات وميادين العمل، وقد تشتغل الاتحادات الكبيرة لدعم "التشبيك بين عدد كبير من منظمات أعضاء أو متعاونة، ولكن قد لا تكون إدارة ذلك "التشبيك" مؤهلة لممارسته، ناهيك عن تأهيل سواها عليه.. وتزيد الإشكالية عند ملاحظة غياب محددات واضحة وقاطعة لتعدد التخصصات في العمل، وهو ما يجعل "التنافس" معيقا للتشبيك بدلا من أن يخدم أغراضه بحيث تتحقق الفائدة لجميع المشاركين فيه.

. . .

إن مشكلة الارتجالية في أعمالنا بصيغة "مبادرات"، أو تفاعلا مع أعمال سوانا بصيغة "ردود فعل" مشكلة متضخمة، وهي في الوقت نفسه حاضنة لتوليد عوامل سلبية عديدة تصنع بدورها مزيدا من المشكلات في مختلف القطاعات، ولهذا نحتاج إلى تركيز الاهتمام على استيعاب المشكلة وحلّها تركيزا كبيرا، ولا يتحقق هذا الهدف بطبيعة الحال من خلال مقالة إعلامية تشير إلى بعض معالم "المدخل" إلى تشخيص المشكلة، بل نحتاج إلى دراسات تخصصية "أكاديمية" وميدانية، فضلا عن التواصل المباشر في ندوات تخصصية تستهدف التشخيص الدقيق والعلاج الناجع.

نبيل شبيب