الحج
كل سفر إلى مكان تشتاق إليه، يخفف عنك بعض شوقك، إلا السفر لحج بيت الله الحرام، فما تكاد تؤدي الفريضة إلا وأنت مشتاق لأدائها من جديد، ملبيا قول الله تعالى:
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} -الحج: ٢٧-
مع أن كل مكان يبلغ فيه الازدحام مبلغه يمكن أن يكون سببا في غضب الأفراد من عامة الناس، ولكن لا يسري هذا على الازدحام عند أداء فريضة الحج، فالمطلوب هنا التسامح والعفو والإحسان، فذاك ما ينتظر ممن يسمع قوله تعالى:
{وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿١٣٣﴾ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} -آل عمران: ١٣٣+١٣٤-
والحج ركن تعبدي، ومن مقتضى هذه العبادة التذكير بالمساواة بين البشر، وكم نحتاج للتذكير بذلك، مظهرا وتكريما وتكليفا، وذاك ما يتفق مع ما يروى عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه في الترغيب والترهيب: (النَّاسُ بنو آدمَ، وآدمُ خُلِق من تراب)
وقد شاع واشتهر أن هذا المعنى ورد أيضا في خطبته صلى الله عليه وسلم في عرفات في حجة الوداع، وذلك بلفظ: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله اتقاكم)
على أية حال يفترض أن يكون أداء الحج سنويا بمنزلة أكبر مؤتمر إنساني عالمي، وأخلاقي عقدي، وفكري حضاري لا سيما وأن الأمر بالحج، قد ارتبط بإقامة دعائم البيت الحرام وحوله أرض جرداء قاحلة، فارتبط بتأمين أسباب الحياة والرزق والشكر على النجاح بذلك في وادٍ غير ذي زرع:
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} -إبراهيم: ٣٧-
هو إذن النهوض من حالة القحط إلى حالة الازدهار، وهذا بعض ما يذكّرنا به موسم الحج في أشهر معلومات، ويذكرنا بما قيل في معاني الحج وحول المسجد الحرام، وهو كثير، لا سيما ما كان من الشعر قديما وحديثا، ومن ذلك قول محمد إقبال:
توحيد اللـه لنا نورٌ
أعددنا الروح له سكنا
الكون يزول ولا تُمحى
في الكون صحائف سؤددنا
بُنيت في الأرض معابدنا
والبيت الأول كعبتنا
هو أول بيتٍ نحفظهُ
بحياة الروح ويحفظنا
بالمقابل يشكو أحمد شوقي من واقعنا المعاصر وهو يذكّر بما يعنيه الحج لنا فيقول في إحدى قصائده:
شُعوبُكَ في شَرقِ البِلادِ وَغَربِها
كَأَصحابِ كَهفٍ في عَميقِ سُباتِ
بِأَيمانِهِمْ نورانِ ذِكرٌ وَسُنَّةٌ
فَما بالُهُمْ في حالِكِ الظُلُماتِ
فما الذي يمكن أن يقول به هو أو سواه لو عايش ما بدأ يُصنع على مقربة من المشاعر التعبدية في الحج والعمرة والزيارة
يقول أحمد شوقي بشأن أوضاع شبيهة بذلك:
الحَجُّ رُكنٌ مِنَ الإِسلامِ نُكبِرُهُ
وَاليَومَ يوشِكُ هَذا الرُكنُ يَنهَدِمُ
مُحَمَّدٌ رُوّعتَ في القَبرِ أَعظُمُهُ
وَباتَ مُستَأمَناً في قَومِهِ الصَنَمُّ
وَخانَ عَونُ الرَفيقِ العَهدَ في بَلَدٍ
مِنهُ العُهودُ أَتَت لِلناسِ وَالذِمَمُ
كَفى الجَزيرَةَ ما جَرّوا لَها سَفَهاً
وَما يُحاوِلُ مِن أَطرافِها العَجَمُ
تِلكَ الثُغورُ عَلَيها وَهيَ زينَتُها
مَناهِلٌ عَذُبَت لِلقَومِ فَاِزدَحَموا
والاهُمُ أُمَراءُ السوءِ وَاِتّفَقوا
مَعَ العُداةِ عَلَيها فَالعُداةُ هُمُ
وأستودعكم الله وأستودعه بيته المحرم وأهله وكل مشتاق إليه، ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب