وقفة رمضانية من ألمانيا
رمضان بالأمس ورمضان اليوم ورمضان التفاؤل بجيل المستقبل
ذاكرة إسلامية – كان أهل ألمانيا يتصورون أن الإسلام هو دين “ألف ليلة وليلة” ودين “السيف” فحسب
ذاكرة إسلامية
وقف ثلاثتهم، سوريان وباكستاني، وسط حديقة جامعة بون، التي تعادل مساحتها ملعب كرة قدم، وكانوا طالبيْن في كلية الطب، والثالث من كلية الصيدلة، فرفع أحدهم الأذان بأعلى صوته، ووقف آخر خطيبا، وأدوا فريضة الجمعة، مستندين إلى المذهب القائل إن نصاب الجماعة هو الاثنان من المسلمين فما فوق.
ومع نشر هذه اللمحة من ذكريات كاتب هذه السطور يكون قد مضى على ذلك المشهد عدة عقود، أي كان ذلك قبل عصر الفضائيات والشبكة والهاتف المحمول وحاسوب الجيب، ولم يكن الناس في ألمانيا يعرفون شيئا يُذكر عن الإسلام، إلا أنه دين الحريم وألف ليلة وليلة، ودين السيف والسلاطين، ودين مَن يعبدون محمدا فهم محمديون، فإن قيل هم مسلمون بدأ الاستفسار عما يعنيه ذلك، أما الصلاة قياما وركوعا وسجودا وقعودا، فكانت تبدو -في حديقة الجامعة- لمن تجمع من الطلبة ومن عامة المارة، وكأنها حركات مسرحية مضحكة، من عالم الفن التجريدي، يؤديها فنانون حريصون على تجنب الابتسام.
كيف يبتسمون وهم بين يدي الله تعالى، قد فتشوا عن مكان تؤدّى فيه الصلاة فلم يجدوا، رغم أن بون كانت عاصمة ألمانيا الغربية آنذاك، وكان عدد المسلمين فيها وفي ضواحيها بضعة عشر ألفا، ولكن الموضة في تلك الفترة كانت تقضي بأن يكون المرء من الطلبة الوافدين من بلادنا الإسلامية شيوعيا أو بعثيا أو قوميا علمانيا، وألا يخجل في تعاطي المسكرات ولا التردد على الحانات والمراقص، أما الصلاة فما كانت من أولويات أحد إلا القليل، ممن رحم ربك، كهؤلاء الشباب الثلاثة الذين كرروا المشهد ذاته في الجمعة التالية، وتكرر تجمع المتفرجين بين مذهول متعجب وضاحك مستهزئ، حتى أتى نحو المصلين مسؤول من أمانة سر الجامعة، يسألهم عما يفعلون، فشكوا له أولا ضيق الحال عن استئجار غرفة للصلاة فهم طلبة، وأشاروا إلى أن للمسيحيين في بلاد المسلمين كنائسهم، ولم يجدوا هم المسلمين مسجدا في بون، فأراد التخلص منهم ومن “مسرحيتهم في الهواء الطلق” أمام الحرم الجامعي، فوضع تحت تصرفهم قاعة صغيرة في قبو المبنى الرئيسي للجامعة، مخصصة في الأصل لكرة الطاولة، فكان عليهم أن يأتوا يوم الجمعة فيرفعوا الطاولة الخضراء جانبا، ويمدوا سجاجيد الصلاة، فيؤدوا الفريضة، ثم يرجعوا الغرفة إلى ما كانت عليه، فيسلموا المفتاح للمسؤول بعد ساعة الظهيرة، وينصرفوا.
هكذا بدأت صلاة الجمعة في بون، عاصمة ألمانيا الغربية في حقبة الحرب الباردة!
قصة طالما رويتها مختصرة ومفصلة، ورويتها مجددا هذه الأيام (من عام ٢٠٠٦م) لبعض الشبيبة في بون، وقد عادت إلى الذاكرة مجددا بعد صلاة الجمعة في أحد المصليات وسط المدينة، حيث قرر المسؤولون منذ فترة، أن تؤدى الجمعة على دفعتين، فقاعة الصلاة التي تتسع لحوالي ٨٠٠ شخص، لم تعد تكفي، وصلاة المسلمين في الشارع أمام المسجد أزعجت أهل الحي، ولا تسمح الإمكانات المادية بالانتقال، ومصلى المهاجرين هذا، الذي أنشأه المهاجرون من أفغانستان أثناء الحكم الشيوعي، (في هذه الأثناء أنشئ مسجد كبير بالاسم نفسه وصورته مرفقة مع هذه الوقفة مع ذاكرة الأيام) وهو واحد من بضعة عشر مصلى في المدينة، يشكو معظمها مثله من ضيق المكان على المصلين، فقد غدوا ألوفا، ولم تعد نسبتهم دون الواحد من الألف من المسلمين في المنطقة!
يا سبحان الله؛ كم يزعجني أن يقتصر نظر بعضنا على اللحظة الآنية، فألمس لديهم روح التشاؤم في الحديث عن أوضاع الإسلام والمسلمين في هذه الديار الغربية ومستقبلهم.
في رمضان كان المصلى يجمع بالكاد العشرة أو العشرين من الأكبر سنا، على صلاة التراويح، واليوم لا يجد المسلم مكانا إذا تأخر عن أذان العشاء قليلا، ولا نكاد نرى في الصفوف الأمامية سوى وجوه الشباب.
في رمضان كان الطلبة والعمال يجمعون أطعمتهم، لا سيما ما كان يأتيهم من بلدانهم الأصلية، ليلتقوا ولو مرة في الأسبوع على طعام إفطار مشترك، وفي هذه الأيام لا يخلو يوم من أيام رمضان من إفطار مشترك في أكثر من مصلى في وقت واحد، وغالبا ما يكون ذلك تبرعا من القادرين، أو بمناسبة زواج إسلامي انعقد، أو عقيقة مولود مسلم جديد.
في رمضان كان أهل البلاد من غير المسلمين يسألون متعجبين: هل حقا لا تأكلون ولا تشربون إلا في الليل؟ وعلام تجوعون أنفسكم؟ ولا يفيد الشرح وإن تكرر، وفي هذه الأيام واكب حلولَ رمضان أكثر من برنامج إذاعي وتلفازي يتحدث عن الإسلام والمسلمين وشهر الصيام لديهم.
في رمضان كان يأتينا في المصلى الصغير أخ مسلم من المعاقين، وكان بين الأربعين والخمسين من عمره، فكنا نحتفي به أضعاف ما نحتفي بسواه، كيف لا وهو مسلم ألماني، وليس مثلنا من الوافدين، ولم نكن نعرف أو نسمع عن ألماني مسلم آخر، واليوم أعرف عن أربعة لقاءات على الأقل على إفطار مشترك بدعوات خاصة، كانت في النصف الأول من رمضان (١٤٢٧هـ) فكان منها المخصص للذكور ومنها المخصص للإناث، وجميعهم من أهل البلاد الأصليين، أو من المواليد في هذه البلاد، وهذا في مدينة واحدة من مدن ألمانيا.
مرّة أخرى مع الاعتذار عن التكرار:
يا سبحان الله؛ كم يزعجني أن يقتصر نظر بعضنا على اللحظة الآنية، فألمس لديه روح التشاؤم في الحديث عن أوضاع الإسلام والمسلمين في هذه الديار الغربية ومستقبلهم.
كثير من المسلمين ينزعج هذه الأيام بسبب إساءة صدرت عن فلان أو فلان، فتقوم دنيا المحتجين الغاضبين ولا تقعد، ويغفل عن أن ما كان يصدر من إساءات قبل جيل واحد، كان أضعاف ما يصدر الآن، ولكن لم يكن يجد أصلا من يقوم ويقعد ويحتج ويغضب!
كثير من المسلمين ينزعج من أن ما يُكتب عن المسلمين وقضاياهم ودينهم في وسائل الإعلام الغربية، سلبي المضمون والأهداف، بنسبة يقدرها أمثالي ممن عملوا في الإعلام عشرات السنين، بستين أو سبعين في المائة، ويغفل مَن ينزعج عن أن ذكر الإسلام والمسلمين وقضاياهم كان منعدما أصلا في وسائل الإعلام قبل جيل واحد!
كثير من المسلمين ينزعج من المحاولات الرسمية وغير الرسمية أن يكون تدريس الإسلام لأطفال المسلمين في المدارس الرسمية الألمانية تحت الرقابة، بمعنى أن تعلم أجهزة الدولة ما يُقال فيه، وأن تكون المناهج مما لا يؤدي إلى ممارسة عنف ما ضد القيم السائدة وأساليب الحياة المطبقة، وإن كان حقُّ رفضها مضمونا، ويغفل المنزعجون أن أطفال الجيل الماضي في هذه الديار كانوا محرومين أصلا من تعلم دينهم في المدارس، وأن أحدا لم يكن يخطر له أن هذه المسألة يمكن أن تصبح من القضايا المطروحة على أعلى المستويات بعد فترة وجيزة من الزمن نسبيا!
كثير من المسلمين ينزعج بسبب التضييق على الطالبات المحجبات في بلدان أوروبية عديدة (وياللعار… في بعض بلدان إسلامية أيضا) ويغفل عن أن الحجاب لم يصبح مشكلة مؤرقة إلا بعد أن انتشر انتشارا واسع النطاق، وقد كان يوجد مسلمون ومسلمات قبل جيل واحد، ولكن لم يكن يوجد الحجاب في كل مكان، ولا كانت المصليات مليئة، ولا كانت الأسر راغبة في تدريس الإسلام لأطفالها، فإن كان هذا الذي نشهده، هو من حصيلة القليل مما تبدل بعد جيل واحد، فكيف ستكون حصيلة الكثير مما بدأت ثمراته تتراكم في واقع حياة الجيل التالي؟!
لا ريب في كثرة المشكلات التي يواجهها المسلمون وشدتها عليهم، وهي مما لا يجد حلولا عن طريق التشاؤم ولا التفاؤل، إنما المطلوب هو الرؤية المتوازنة، والعمل السديد، مع الإيمان الصادق، والنية الطيبة. المطلوب هو أن نستوعب استيعاب الفهم العميق والتطبيق الشامل لمختلف الميادين وعدَ الله عزّ وجلّ في كتابه الكريم {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} -٣٠ الكهف-
وأستودعكم الله في شهر رمضان وفي كافة الشهور ولكم أطيب السلام من نبيل شبيب